كان ذلك شون بين في "انتو ذا وايد"(2007)، ثم الآن لدينا جون مارك فاليه في محاولته البرية في "وايلد"(2014). كان ذلك اميل هيرش في دور الشاب الذي يترك عائلته ملبيا نداء الطبيعة من اجل الارتقاء الروحي، وها نحن ازاء ريز ويزرسبون في دور فتاة تقوم برحلة شبيهة (وإن في سهوب لا تخلو من اشارات الطريق والناس والمحطات) لكي تقطع 1100 ميلاـ وتقطع خلالها الكثير من حبال الوهم والألم التي خنقتها بفعل كآبة فقدان الام وفشل الزواج وأسى الهيرويين.
مقارنة
كانت تلك مقارنة لا يمكن استبعادها من البال بمجرد رؤية افيش فيلم فاليه الجديد الذي يعرضه "مهرجان دبي السينمائي" في دورته الحالية، ترسخها اللغة التي عمل عليها مخرج "دالاس بايرز كلوب"، حيث السرد بطريقة "الفلاش باك"، والمونتاج المتوتر، تمام كما كانت لغة بين في "انتو ذا وايلد".
لكن المقارنة سرعان ما تبدأ بالتبخر، مع التوغل في مشاهد الفيلم الذي يقارب ساعتين من الوقت.
فمن الصعب جدا مقارنة العمق الوجودي والنفسي لأداء هيرش، الذي توّجه بمشاهد حفرت في تاريخ سينما أفلام "البرية" ورحلات البحث عن الذات في الطبيعة. لا يمكننا أن ننسى مشهد الاحتضار في تلك الحافلة المهجورة بينما كائنات الارض والسماء تستعد للانقضاض على جسد وروح الشاب الذي اعتقد أن الطبيعة ستكون أكثر حنانا واستيعابا لروحه، فاذا بها تعامله بمنتهى القسوة.. لا يمكن مقارنة ذلك بأداء ويزربسون المجتهد، انما غير القادر على ملامسة العمق الحقيقي الروحي لتجربة انقاذ ذاتي يقودها انسان بين أحضان الغابات، وفي قيظ الصحراء تارة، وبرد الثلج تارة اخرى، لكي يتمكن من هضم تجارب ماضيه الأليم، والتي لا تخلو من عنف أب سكير ضد أم محبة للحياة، أو سرطان خبيث يزحف فجأة لكي يدمر تلك الأم، أو تجربة من التدمير الذاتي والانتقام المازوشي من الذات عبر الكثير من الهيرويين والجنس مع الأغراب في الطريق. ملامح الممثلة التي تردنا دوما الى الطفولة قد تكون باعثة على عدم الارتياح في مشاهد تحتاج الى خبرة ونضج.
خلط
روح ملوثة، دفعت بصاحبتها بشيريل ستريد (الشخصية حقيقية كتبت قصتها التي استند عليها الفيلم) للمشي في طريق "باسيفيك كريست تريل" مسافة تحتاجها من اجل الارتقاء. لكن فاليه، المخرج الكندي المسكون باختبار قماشات سينمائية جديدة في كل فيلم يقبل عليه، ربما أساء التقدير حين دمج بين نوعين سينمائيين في فيلم واحد، فجاءت النتيجة مسلية وانما متفقدة الى العمق.
النوعان هما "نوع سينما على الطريق"، حيث تقوم شخصية أو أكثر برحلة (عادة غير محددة الوجهة) وتلتقي خلال رحلتها بشخصيات ذات تركيبات نفسية واجتماعية ودرامية مختلفة، تتأثر بها وتؤثر فيها. هذا نوع من الافلام ذات الايقاع السريع والمكتظة بالشخصيات والقصص الفرعية التي تتلاقى وتتوازى مع القصة الأصلية للشخصية. ثم هناك النوع الثاني وهو "نوع سينما البرية"، حيث تخوض الشخصية رحلتها في تلاقي مع عناصر الطبيعة، اشبه ما يكون بالتلاقي الارتقائي الذي تحدث عنه الشاعر شارل اميرستون أحد مؤسسي مذهب "الارتقائية" واحدى عناصره اكتشاف الأرواح الكامنة في الاشجار والينابيع. وهذا نوع من الافلام ذات الايقاع البطيء في العادة، والفضاءات المتسعة، التي تشرك المشاهد في تلك الرحلة الارتقائية الروحانية.
في "وايلد" شيء من النوعين: الكثير من الشخصيات التي تلتقي بها الفتاة اثناء رحلتها وتجري معها محادثات (بعضها بالامكان الاستغناء عنه) وبين دقائق من السكون والصمت والتوحد الوجداني مع الطبيعة وكائناتها، وهداياها الجميلة في لحظات العطش أو المخيفة في لحظات النوم والكوابيس.. كل ذلك مع الكثير (الكثير جدا) من المشاهد التي تقصف ذاكرة وخيال البطلة (وايضا تركيز المشاهدين) حد التوهان، وهي مشاهد "الفلاش باك" لسير وفترات مختلفة لم يتبع المخرج أسلوبا كرونولوجيا في سردها وانما قطعها ووزعها بشكل مبعثر في كافة أرجاء الفيلم.
ديكو
الشخصيات الكثيرة التي قابلتها بدءا من الرجل الحصاد الذي منحها عشاء (على مائدة زوجته البدينة وغير الراضية) وحماما ساخنا للاغتسال، مرورا بمرتحلين مثلها وصحافي طريف يكتب مقابلات عن النساء المشردات اللواتي يرتحلن باستمرار في أميركا، وصولا الى الشبان الثلاثة الذين يغارون منها لأنها "ملكة البرية التي يقدم لها الآخرون المساعدة"، والطفل الذي يغني لها أغنية مؤثرة تحرضها على انهيار عصبي، وصاحب حانة، وصاحب محل توزيع صناديق الرعاية وصيادان مرعبان في الغابة.. هذا من دون أن ننسى الشخصيات الكثيرة المستحضرة في الذاكرة مثل الأم والأب والأخ والزوج وشركاء تجارب الهيروين والجنس المجاني.. كل ذلك كان كفيلا بأن يحبط اي محاولة لدى المشاهد بالبحث عن تأثير الطبيعة في الرحلة الداخلية للشخصي من أجل شفاء ذاتها.
ان الطبيعة في "وايلد" حضرت كديكور لرحلة "على الطريق" لا تخلو من المواقف الكوميدية، بينما هي، في واقع الامر وكما اريد لها من خلال اقتباس الكتاب، أن تكون البطلة الأم في أحداث القصة.
امتاع
رغم ذلك، فإن شيئا من الامتاع في أداء الأم (لورا ديرن)، اضافة الى هذا الحشد من الشخصيات، كان كفيلا بأن يجعل رحلة فيلم الساعتين تنتهي بسرعة ومن دون خسائر جسيمة وان من دون بصمة قوية في القلب (كتلك التي تشعر بها بعد مشاهدة "انتو ذا وايلد" أو "127 ساعة")، أو كتلك التي ربما سنشعر بها بعد مشاهدتنا لفيلم جون كوران "تراكس" المقبل المستند على ذات الكتاب الذي خرجت منه أحداث "وايلد"!
ان خروجك من فيلم "وايلد" برغبة ملحة لمشاهدة فيلم "انتو ذا وايلد" قد يرسم علامات استفهام حول نجاح جون مارك فاليه في خدمة موضوع فيلمه!