لنتخيل قصة: برنامج للمخابرات تابع لاحدى الدول الغربية (مثلا فرنسا) هدفه البحث عن أطفال ذوي "قدرات غير عادية" في مختلف بلاد العالم، وتسهيل عبورهم الى فرنسا، يقوم بتجنيد "وكلاء" له، من بينهم طبيب يعمل في احدى مستشفيات مصر. يقوم الطبيب ذات يوم بالاشتباه بقدرات فتاة فقيرة تبيع زهور الفل عند اشارة المرور "فل يا باشا.. فل يا بيه!"، اذ يكتشف انها تمكنت من  تغيير مسار سيارة كادت تدهس طفلا افلت من يد أمه.

يتقرب الطبيب أكثر من الطفلة، ويكتشف انها تعيش في غرفة صغيرة مع امها في حديقة فندق بمنطقة نائية من الاسكندرية في "أبو قير"، حيث تخدم الام أرملة حسناء، تدير الفندق، وتسقط في "دباديب" الطبيب، لاحقا.
تعرض الطفلة لاهمال من والدها الذي يتخلى عن اطفاله،  ويقضي وقته في مقهى يرتاده تجار الحشيش. ليس بعد أن يعرف من الطبيب ان الطفلة التي تمكنت هذه المرة من ارباك عروض رجال السيرك الجوال، هي ذات قدرات غير عادية، فتصبح بنظره "بيضة الدجاج" التي تبيض ذهبا. يشتد الصراع حول الطفلة بين أهلها من جهة والطبيب "وكيل" الاستخبارات الفرنسية من جهة أخرى. تعرف الأرملة بحقيقة حبيبها وتتهمه بـ"خيانة الوطن"، فيضحك في مشهد مؤثر، في خلفية صورته عربات "السيرك" المهجورة التي هرب أصحابها من المتشددين:" انني احاول أن أحميها من هذا البلد.. هنا لن يكون لديها شأن، وستنتهي اما في السجن أو في دائرة الموت". يخرج المشاهد من الصالة غير متعاطف مع البطل، ومشاعره "غير الوطنية"، لكنه أيضا يطرح الكثير من الاسئلة عن الناس في مصر والمستقبل والصراعات.
الآن لنتخيل نسخة أخرى من هذه القصة: لا وجود لجهة خارجية تبحث عن العقول ذات القدرات الفذة. الأمن المصري (!) هو الذي يفعل ذلك. نعم، في الزمن الذي يتوجب على أمن مصر حل الكثير من المعضلات الأساسية، مثل أمن الشوارع والمرافق الحيوية واعادة تشكيل صورته الودودة في عقلية ابن الشارع، ها هو يهتم بالبحث عن القدرات الخارقة. أيضا: الطبيب دافعه ليس "وكالة" ولا "عمالة"، انما أستاذه النزق في الجامعة الذي طلب منه البحث عن اولئك الأطفال من أجل "بحث جامعي"، في مشهد ركيك يذكر بكيفية تعامل سهير البابلي مع عادل امام في "مدرسة المشاغبين". أيضا: الطفلة ليست فقيرة، ولا تعمل عند الاشارة، بل هي ابنة صاحبة الفندق، ترتدي قميص نوم أبيض، ويشع منها ضوء كأنها ملاك، يسجد لها اعضاء السيرك الجوال حين تطل من النافذة. أيضا: الفندق مليء بشخصيات لا نعرف عنها الكثير. رجال من مختلف الأعمار، لكن صاحبة الفندق (ليست ارملة بل مطلقة) "متعففة" طوال خمس سنوات، ترتدي نوعية من الأزياء وتتصرف بطريقة لا يمكن تخيلها ابدا في "أبو قير"، وتنتظر "حبيب القلب" الطبيب لكي تقيم معه علاقة.

النسخة الأولى من القصة لم تظهر (والأرجح أنها لن تفعل) في أي فيلم، رغم أنها مستندة الى معطيات واقعية في الشق المتعلق ببرنامج استخبارات غربي، هدفه "توريد" الأطفال ذوي القدرات غير العادية، الى "دول الثمانية". وهي من نسج خيال كاتب هذه السطور.

النسخة الثانية، هي باختصار ما شاهدناه في فيلم داوود عبد السيد الجديد "قدرات غير عادية" الذي عرض لأول مرة في "مهرجان دبي السينمائي الدولي" واحتاج المرء لاحتمال بطء ايقاعه وتفكك مساراته وافتعال اداء بعض ممثليه وضعف بعضهم الآخر وتكرار الكثير من المشاهد بلا جدوى والحشو الهائل والسياقات غير المبررة للأحداث وانقطاع الفيلم عن مسيرة مصر اليوم واحداثها (الاكتفاء بمشاهد متشددين يهاجمون سيرك أو امرأة تستخدم النقاب من اجل الهرب هو كليشيه عالجته السينما قبل ثلاثين سنة).. وانقطاع الفيلم عن مسيرة عبد السيد نفسه، صاحب روائع "ارض الخوف" و"البحث عن سيد مرزوق" و"أرض الأحلام" وصولا الى "رسائل البحر"، والأبعاد المسطحة للشخصيات، وأداء ضابط الأمن الذي يذكرنا بأسوأ مشاهد الضباط في "جمعة الشوان" او "رأفت الهجان" وكاميرا اهتزت على الأقل اربع مرات من دون مبرر.. يحتاج المشاهد الى "قدرات غير عادية" فعلا لاحتمال هذا الفيلم الذي شكل صدمة لكثير ممن شاهدوه، أو تركوا الصالة قبل اكماله، مبنية، بشكل اساسي، على الغضب من "غلطة الشاطر" داوود، وسقطته.

ما هكذا يقوم صاحب احد اجمل مشاهد السيرك في تاريخ السينما، وهو مشهد الساحر يحيى الفخراني في "أرض الاحلام" تتفرج عليه سيدة الشاشة فاتن حمامة.. باخراج مشاهد سيركه الجديد الحائر بين كرتونية الأسد المصمم على طريقة غرافيكس وواقعية اللحظة التي يرشق بها المتشددون ابطال السيرك لأنه "حرام"!

ما هكذا يصور صاحب مشهد الجنس بين عايدة رياض وشريف منير في "الكيت كات"، بكل الحذاقة وفهم سيكولوجيا الشخصيات، مشهدا آخرا في فيلمه الجديد بين الطبيب (خالد  ابو النجا) وبين صاحبة الفندق (نجلاء بدر). تقول له:" لم اخض علاقة منذ خمس سنوات مع رجل". تصريح يبعث على الدهشة، اذ ان مستوى الشوق الى الحب وصدق الشخصيات في هذا المشهد الذي كان من المفترض ان يكون بكامل التوحش والحميمية والجرأة والخوف والشوق والبرودة.. كان من عينة مشاهد محمود ياسين ونجلاء فتحي في السبعينيات، ولم نقتنع تماما أن صاحبته لم يمسها رجل منذ خمس سنوات!

ما هكذا يقود صاحب أسلس واقعية شاعرية في تاريخ السينما المصرية، له بصمات مؤثرة في أداء بسمة وآسر ياسين في "رسائل البحر"، بطليه الرئيسيين وان كانت موهبتهما (بالنسبة لي) اقل من السابقين!

وكأن داوود غير داوود وكأن هذا الفيلم يحتاج الى اعادة تشكيل من الألف الى الياء من أجل أن يليق بالمسيرة الرائدة لصاحبه وبجمهوره الذي يثق بتوقيعه على الفيلم.

أجمل ما في الفيلم كان الطفلة بأدائها العفوي والمتمكن، فهي قدرة تمثيلية غير عادية قياسا لأداء الاطفال في الكثير من سينما مصر، لكنها في هذا الفيلم بقيت، كما الكثير من الادوات الاخرى، طاقات غير مستغلة وظهرت.. عادية جدا، وأقل!