طريق العلم شاقّ وشائق، يمتلئ بملذات ويحفل بعقبات، وقد تُيئس السائرَ فيه العثراتُ ودوام الرحيل، فينصرف عما أثار في البدء شغفه، ويتوهم أنه محض سراب، وبين تلك الكثرة من المتخاذلين الذين تكتظ بهم جنبات الطريق، ينشط رجال من ذوي الهمة، صدّقوا أحلامهم البهية، لأنهم أدركوا أن بعد كل مشقة راحةً لا تنتهي، ووراء كل عثرة نهضة تدفع إلى تحقيق الحلم.

لم يتمكن اليأس من نفس أبي الحسن علي بن رضوان بن علي المصري، المتوفى سنة 453ه، عندما جلس إلى معلم يتلقى على يديه علم الطب، فإذا بالأستاذ يقرأ من الكتاب فلا يفسّر أو يُعلّق على شيء مما يقرؤه، فانصرف عن الجلوس إلى الشيوخ، وانكب على كتب الطب مجتهداً في فهم ما حوته، حتى نجح، بعد مشقة وإصرار لا يعتريه الفتور، في تحصيل علم نظري واسع صقله بمشاهدات عملية ألمَّ بها، ليصبح فيما بعد طبيباً ماهراً ورئيساً للأطباء بمصر في زمنه.

ويبدو أن صعوبة تحصيل العلم لم تكن المشقة الوحيدة التي كابدها، إذ تجرَّع ابن رضوان المصري مرارة الفقر في كنف أسرة سكنت الجيزة، وأب كان يعمل خبازاً، وقاسى تباريح العذاب بعدما فقد والده في الرابعة عشرة من عمره، وحينها صار لزاماً عليه أن يشتغل بصناعات عدّة وينفق على نفسه ويمتلك زمام أمره، فارتقى سُلَّم المجد بطلب العلم، ونبغ في علوم كثيرة إلى جانب الطب، كالصيدلة والفلسفة والفلك وغيرها.

ويصوّر ابن رضوان هذه المرحلة من حياته قائلاً: «لما أتممت أربع عشرة سنة أخذت في تعلُّم الطب والفلسفة، ولم يكن لي مال أنفق منه، فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقة، فكنت أتكسّب من صناعة الطب مرةً، ومرةً بالتعليم، ولم أزل كذلك وأنا في غاية الاجتهاد في التعليم».

ولا عجب أن تترك الصدمة الأولى، التي صرفته عن أخذ العلم بالتلقي، في ضميره أثراً انعكس بوضوح على منهجه الفكري، حتى إنه اشتهر بنظرية غريبة سطرها في بعض كتبه، تنص على أن التعلم من الكتب أفضل من التعلم من الشيوخ، وعلى الرغم مما أثارته الفكرة من نقد واسع وجّهه إليه العلماء المعاصرون له والمتأخرون، فإنهم أجمعوا على علوّ مكانته العلمية وعظم قدره بين أقرانه، فيقول عنه الذهبي في «تاريخ الإسلام»: «اشتغل في الطب ففاق فيه، وأحكم الفلسفة»، واصفاً إياه بـ«الفيلسوف الباهر»، في حين يرى ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» أنه «أعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها».

وقد يحسب المطالع لكتب التاريخ والتراجم أن تلك الألقاب وغيرها هي مما يدبّجه المادحون بلا تحرٍّ وأناة، خالعين على صاحبهم الأوصاف المنسوجة بالمبالغات الزائفة، غير أن إسهامات ابن رضوان المصري المتنوعة تؤكد أنه مستحقٌ مثل هذا الثناء الرفيع، من أهمها أنه برع في الطب الإكلينيكي بمعاينة المريض والتعرف إلى المرض بالنظر إلى هيئة أعضاء المريض وبشرته وتفقُّد أعضائه، وهي طريقة لا تختلف كثيراً عما هو متبع في العصر الحديث، وفي علم الفلك سجّل انفجاراً نجمياً عظيماً وقع منذ ألف عام، كما ألَّف نحو مئة كتاب أبرزها «النافع في كيفية تعلم صناعة الطب»، إضافة إلى مؤلفاته الأخرى التي اعتنى فيها بالجانبين العلمي والأخلاقي معاً، اللذين هما عماد الحضارة.