إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

حديثنا اليوم في الصفات المحمودة والمذمومة ونبدأ بقول لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، في تعداد مكارم الأخلاق، إذ قالت: مكارم الأخلاق عشرة.. صدق الحديث، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، وحفظ الذمام للجار، وحفظ الذمام للصاحب، وقرى الضيف، وأُسُّهُنَ الحياء.

قال تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين) سورة الحجر الآية 88، وقال سبحانه وتعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) سورة القصص الآية 83.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل العبادة التواضع»، وقال: «لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا فيّ ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله عز وجل اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً».

موقف ومشهد

 

أتى إلى النبي رجل فكلمه فأخذته رعدة، فقال صلى الله عليه وسلم له: «هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة». وكان الرسول يرفع ثوبه ويخصف نعله (يخرزها) ويخدم في مهنة أهله ولم يكن متكبراً ولا متجبراً، فهو أشد الناس حياء وأكثرهم تواضعاً. وقال: (إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة. فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء فتصدقوا يزدكم الله).

التواضع سلم الشرف

 

قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية: إنك لسريع المشية. قال: ذلك أبعد من الكبر وأسرع في الحاجة. وقيل إن التواضع سلم الشرف. قالت الحكماء: كل نعمة يحسد عليها إلا التواضع. وإن أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة وأنصف عن قوة، ومعنى التواضع هو أن تخرج من بيتك فلا تلاقي أحداً إلا رأيت له الفضل عليك.

وقد قيل قديماً: هيبة الإمام في تواضعه.

شعر التواضع

 

قال أبو العتاهية في التواضع: يا من تشرف بالدنيا وزينتها/ ليس التشرف رفعَ الطينِ بالطينِ/ إذا أردت شريف الناس كلهم/ فانظر إلى ملكٍ في زي مسكينِ/ ذاك الذي عَظُمت في الناس همته/ وذاك يصلحُ للدنيا وللدينِ.

وقال الفرزدق في تواضع زين العابدين بن علي بن الحسين: يغضي حياءً ويغُضَى من مهابته/ فلا يُكلّم إلا حين يبتسمُ.

وقال شاعر: وأقبح شيء أن يرى المرء نفسه/ رفيعاً وعند العالمين وضيعُ

تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ/ على صفحات الماء وهو رفيعُ

لأنك كالدخان يعلو بنفسه/ إلى طبقات الجو وهو وضيعُ.

وقال آخر: فتى زاده عز المهابة ذلة/ فكل عزيز عنده متواضع

تأكيد

 

قال الله سبحانه وتعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) سورة آل عمران الآية 159

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل العبادة التواضع).

لا تتكبر إن الله أكبر

 

قيل تواضع إذا ما رزقت العلاء/ فذلك مما يزيد الشرف.

قال الشاعر: تواضع تكن فيك المكارم والنهى/ كأرض فلاة أخصبت بانخفاضها.

وقال آخر: وإن يتواضع معدم فهو صاغر/ وإن يتواضع ذو الغنى فنجيبُ.

تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة/ فإن رفيع القوم من يتواضعُ

ملآى السنابل تنحني بتواضع/ والفارغات رؤوسهن شوامخُ

قالت العرب: من تواضع لله رفعه، ومن رفع نفسه فوق قدره استجلب مقت الناس، ولا تتكبر إن الله أكبر.

قال الشاعر: وما حط من قدري التواضع إنني/ أرى البحر في أدنىَ مكان من الأرض.

تواضع لرب العرش علك ترفع/ فما خاب عبدٌ للمهيمن يخضعُ

إذا شئت أن تزداد قدراً ورفعة/ فلِنْ وتواضع واترك الكبر والعُجبا

يا مسرفاً في التيهِ ما ينتهي/ أخافُ أن يغني علينا الزمانُ.

أقوال حكيمة

 

قال بعض الحكماء: ما رأيت متكبراً إلا تحول ما به بي، يعني أتكبر عليه، وإن الكبر يوجب المقت ومن مقته رجاله لم يستقم حاله.

قال الجاحظ: المشهورون بالكبر من قريش بنو مخزوم، وبنو أمية، ومن العرب بنو حفص بن كلاب وبنو زرارة بن عدي، وأما الأكاسرة فكانوا لا يعدون الناس إلا عبيداً، وأنفسهم إلا أرباباً.

قيل لأحد المتكبرين: ما لك لا تحضر صلاة الجماعة؟ قال: أخشى أن يزاحمني البقالون.

حسبك بظل الناقة شرفاً

 

يروى أن وائل بن حجر أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقطعه أرضاً وقال لمعاوية بن أبي سفيان اعرض هذه الأرض عليه واكتبها له. فخرج معه معاوية ومشى خلف ناقته فأحرقه حر الشمس، فقال له: اردفني خلفك على ناقتك، فقال: لست من أرداف الملوك: قال فأعطني نعليك: قال ما بخل يمنعني يا ابن أبي سفيان، ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أي (ملوك اليمن) أنك لبست نعلي، ولكن امش في ظل ناقتي فحسبك بها شرفاً.

قيل إنه عاش إلى زمن معاوية، فدخل ذات مرة إلى مجلس معاوية فأكرمه وأقعده معه على السرير وحدثه.

تباري الشعراء

 

قال شاعر: قولا لأحمق يلوي التيه اخدعه/ لو كنت تعلم ما في التيه لم تتهْ

التيه مفسدةٌ الدين منقصةٌ/ للعقل مهلكة للعرض فانتبهْ

قال محمود الوراق: التيه مفسدة للدين منقصة/ للعقل مجلبةٌ للذمّ والسخطِ

منعُ العطاء وبسط الوجه أحسن من/ بذل العطاء بوجهٍ غير منبسطِ

وقال المسعودي: ولا تأنفا أن ترجعا فتسلِّما/ فما كسى الأفواه شر من الكبرِ.

و.. ما كان يُدرك بالرجال ولا/ بالمال ما ادركت بالرفقِ

الرفق يمنٌ والأناة سعادةٌ/ فاستأن في رفقٍ تلاقِ نجاحا

التواضع ليس علماً

 

التواضع ليس علماً نتعلمه بالإقناع أو بالسوط، إنما هو جزء أساسي من أخلاقنا في الحياة. التواضع هو الأدب الذي نتأدب به منذ الطفولة ونتعلمه في البيوت قبل المدارس، والتواضع لا يحط من قدر الإنسان الواثق من نفسه، بل يرفعه مكانة وعزة عند قومه وأصحابه.

الغرور مقبرة الطموح

 

يقول الشاعر: إن شئت أن تبني بناء شامخاً/ يلزم لذا البنيان أسٌّ راسخُ

وقيل قديماً: عش ولا تغتر فإن الغرور مقبرة الطموح، والغرور يدمر صاحبه.

تواضع عمر بن الخطاب

 

جاء في كتاب سيرة الصحابة للدكتور مصطفى مراد: خرج عمر بن الخطاب في يوم حار واضعاً رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار فقال له: يا غلام احملني معك. فوثب الغلام عن الحمار وقال: اركب يا أمير المؤمنين. قال: لا.. اركب وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان الوطيء، وتركب أنت على الموضع الخشن. فركب خلف الغلام، ودخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه.

تواضع ذي النورين

 

كان عثمان بن عفان يلي وضوء الليل بنفسه فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك، فقال: لا، إن الليل لهم يستريحون فيه. (وهذا حديث أخرجه ابن سعد وابن عساكر).

وعن الحسن البصري قال: رأيت عثمان نائماً في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين.

تواضع علي بن أبي طالب

 

ويروى أن علياً اشترى تمراً بدرهم فحمله في ملحفته، فقال له أحدهم: أحمل عنك يا أمير المؤمنين. قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.

عاد على حاله

 

عن محمد بن سيرين قال: كان عمر بن الخطاب إذا بعث عاملاً كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوه وأطيعوا ما عُدل عليكم، فلما استعمل حذيفة على المدائن، كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم، فخرج حذيفة من عند عمر على حمار موكف وعلى الحمار زاده، فلما قدم المدائن استقبله أهل الأرض والدهاقين وبيده رغيف وقطعة من لحم على حمار على إكاف (البرذعة)، فقرأ عهده إليهم، فقالوا: سلنا ما شئت. قال: أسألكم طعاماً آكله، وعلف حماري هذا ما دمت فيكم. فأقام فيهم ردحاً من الزمن ثم كتب إليه عمر أن يعود، فلما بلغ عمر قدومه كمن له على الطريق في مكان لا يراه. فلما رآه عمر على الحال الذي خرج من عنده عليه التزمه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك.

قال الله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) سورة القلم الآية 4.

والخلق العظيم هو عادات الإنسان وأخلاقه اليومية، أي ليس بمعنى خُلق مع هذا وخُلق آخر مختلف تماماً مع آخرين، لأنهم ذووا مال وجاه وممتلكات فارهة. وهذه الآية يمكن شرحها مطولاً، لأن الخلق العظيم في الكلام والمعاملة مع الآخرين والجلوس والقيام والسلام والوداع.

علينا أن نكون قدوة لأطفالنا قبل أن نفقدهم وهم بعد بين أيدينا، لأنه قد طغت على زمننا المظاهر والتقليد الأعمى. علينا أن نخاف الله في أولادنا فهم أكبادنا التي تمشي على الأرض، لأن المادة لا تكسب الإنسان أخلاقاً، كما أن التواضع لا يجلب له الفقر.

الغرور منبوذ في كل اللغات والأديان

 

قال الله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم) سورة الانفطار الآية 6. وتفسير الآية.. أنك أيها الإنسان، ما الذي خدعك حتى عصيت ربك؟ ومن الذي أغواك عن طاعة مولاك، ومن الذي جرأك على الكفر والفجور.

فكلمة الغرور في كل اللغات وفي كل الأديان كلمة غير محببة، فما بالك بديننا الإسلامي الذي نعتنقه ونؤمن به ولكن لا نطبق كما يجب تعاليمه.

قيل: لا يتكبر إلا كل وضيع ولا يتواضع إلا كل رفيع.

قال الشاعر: خفضت رأسك لا ذلاً ولا خجلاً/ بل اتضاع وريقٍ مثقلٍ بثمرْ.

وقال آخر:

عبثاً خفضك الجناح لجلفٍ/ ليس يرضيه غير خفضِ الرأسِ.

وقيل: يجر ذيول الكبر طالبَ رفعةٍ/ ألا فاعجبوا من طالبِ الرفعِ بالجرِّ.

 

 

 

قال الطغرائي:

 

 

أرى الغصن يعرى وهو يسمو بنفسه/ ويُوقرُ حملاً حين يدنو من الأرضِ

اللهم تقبل منا صيامنا وصلاتنا، سجودنا وقيامنا، واجعلنا من عبادك الصالحين المتواضعين.

وفي الغد بإذن الله نتحدث عن الحقد والحسد والكراهية أجارنا الله منها وإياكم.