إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.
والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.
فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.
جمعت لكم في هذه الحلقة ما قيل في الدهر، الدنيا، الزمان، الأيام، وكيف استُخلصت التجارب والعبارات والعبر مما جرى على أمم قبلنا في سالف الدهر.
جاء في كتاب جبران خليل جبران: ما قولك في الزمان؟
فأجابه: أنه ليروقكم أن تقيسوا الزمان الذي يتعدى كل قياس، مثلما يروقكم أن تكيفوا سلوككم وتحددوا اتجاه أرواحكم بمقتضى الساعات والفصول.
ويروقكم كذلك أن تجعلوا من الزمان نهراً تجلسون على ضفافه وترقبون اندفاعه.
قال لسان الدين بن الخطيب من الأندلس (1313 ـ 1374م): وطرٌ ما فيه من عيبٍ سوى/ أنه مر كلمح البصرِ/ غارت الشهبُ بنا أو ربما/ أثرت فينا عيون النرجسِ.
يقول الشاعر: تعيب زماننا والعيب فينا/ وما لزماننا عيب سوانا/ ونهجو ذا الزمان بغير ذنب/ ولو ن طق الزمان لنا هجانا/ وما ذئب ليأكل لحم ذئب/ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا.
الزمان ليس منصفا
قال الشاعر: سهد الفتى لمطالب ما نالها/ وأصابها من بات ليس بساهدِ/ فهو الزمان قضى بغير تناصف/ بين الأنام وضاع جهد الجاهدِ.
يقول أبو العلاء المعري: نفارق العيش لم نظفر بمعرفةٍ/ أيُّ المعاني بأهلِ الأرض مقصود/ وابيضَّ ما اخضر من نبت الزمان بنا/ وكل زرع إذا هاج محصود.
من تعظم على الزمان أهانه
قال الشاعر: زمانٌ دهانا كالحُ الوجه أغبر/ فمن هذه الأيام الله أكبرُ.
وقيل عن تقلب الزمان: فيومٌ علينا ويومٌ لنا/ ويومٌ نُساءُ ويوم نُسَرُّ
(نُساءُ: بمعنى الإساءة أي نستاء).
ويضيف جبران: إلا أن ما لا يتقيد فيكم بزمان ليعرف أن الحياة لا يحصرها زمان، ويعرف أن أمس ليس سوى ذكرى اليوم، وأن الغد ليس سوى حلم اليوم، وأن ما يغني ويتأمل فيكم لازال ضمن تلك اللحظة.
قال المتنبي: اذم إلى هذا الزمان أهيله.
وقال شاعر آخر: تراشقني أهل الزمان بأعينٍ/ لو أني صفاةٌ خفتُ أن أتصدعا/ وذنبي أني كنتُ آدب منهمُ/ وأبرع منهم في الفنونِ وابدعا. وعن محنة الزمان قالوا: محنُ الزمان كثيرة لا تنقضي/ وسرورهُ يأتيك كالأعيادِ/ ملَكَ الأكابر فأسترق رقابهم/ وتراهُ رقاً في يد الأوغادِ.
قال ابن هانئ الأندلسي: خاب من يرجو زماناً دائماً/ تعرف البأساء منه والنكد/ فلقد ذُكِّر من كان سها/ ولقد نُبه من كان رقد.
سياسة الزمان
قال أبو تمام: لقد ساسنا هذا الزمان سياسة/ سدى لم يسسها قط عبد مجدَّعُ/ تروح علينا كل يوم وتغتدي/ خطوبٌ كأن الدهر منهن يُصرعُ.
قال أحد الشعراء الحكماء: زمان يخاطب أبناءه/ جهاراً وقد جهلوا ما عنىَ.
وقال آخر: عاد الزمان فأعطى بعدما حَرَمَا/ وتابَ في أذن المحزون فأبتسما.
من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب
قال حبيب الطائي: أعاذلتي ما أخشن الليل مركباً/ وأخشنُ منه في الملماتِ راكبهُ/ ذريني وأهوال الزمانِ أقاسها/ فأهواله العظمى تليها رغائبهُ.
وقال حافظ إبراهيم: سعيت إلى ان كدتُ انتعل الدما/ وعدتُ وما أعقبتُ إلا التندما/ فما عصمتني من زماني فضائلي/ ولكن رأيت الموت للحرِّ أعصما/ فيا قلب لا تجزع إذا عضك الأسى/ فإنك بعد اليوم لن تتألما.
ليس العتب على الزمن
يقول ابن خفاجة وهو إبراهيم بن أبي الفتح بن عبدالله (1058 ـ 1138) ولد في جزيرة شقر بالقرب من بلنسية في شرقي الأندلس: (السخط على الزمان): ألم ترني سخطتُ على الزمانِ/
وحُسنُ الظن بالدنيا دهاني/ ولست من الشباب وليس مني/ فقد أعطيتُ حابستي عناني.
تطامن لها تخْطك
يقال: تطامن لها تخطك (التطامن بمعنى الذل)
قال الشاعر: تطامن للزمان يجزك عفواً/ وإن قالوا ذليلٌ قل ذليلُ.
وقال آخر: يا سائلاً عني تجمل وأعلمِ/ أني جهولٌ والزمانُ معلمي.
وآخر يقول: ترى الناس ما سِرنا يسيرون خلفنا/ وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا.
قال محمد مهدي الجواهري: هذا الزمانُ كفيل أن يكيل لكم/ صاعاً بصاع وامداداً بأمدادِ/ كم تعملون لجهال تموت لكم/ مآتماً هم رغم الناس أعيادي.
وله أيضاً: يا ثورةَ العُربِ انهضي/ لا تخلقي ما جددوا/ لا عاش شعبٌ أهلهُ/ لسانهم مقَّيدُ.
ويضيف إليه جبران: من منكم لا يشعر أن مقدرته على الحب لا تُحد، ومن لا يشعر أن ذلك لا يحد ينحصر في محور كيانه، ويتنقل به من فكرة في الحب إلى أخرى، ومن صنيع يفرضه الحب إلى صنيع مماثل. أليس الزمان كالحب، لا ينقسم ولا يقاس بالخطوات، إلا أنكم ما دمتم مجبرين على تقسيم الزمان في أفكاركم إلى فصول، فليلف كل فصل من فصولكم باقي الفصول.
نصيحة الإمام الشافعي
إنه أبو عبدالله محمد بن أدريس الشافعي، وهو من نسل هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف القريشي، ولد بغزة وقيل بعسقلان وقيل باليمن سنة 150هـ. وقد قال في الرضى بقضاء الله:
دع الأيام تفعل ما تشاء/ وطب نفساً اذا حكم القضاءُ/ ولا تجزع لحادثةِ الليالي/ فما لحوادث الدنيا بقاءُ/ وكن رجلاً على الأهوال جلداً/ وشيمتك السماحة والوفاءُ/ وإن كثرت عيوبك في البرايا/ وسرك يكون لها غطاءُ/ تستر بالسخاء فكل عيب/ يغطيه كما قيل السخاءُ/ ولا ترى للأعادي قط ذلاً/ فإن شماتة الأعداء بلاءُ/ ولا ترجُ السماحة من بخيل/ فما في النار للظمآن ماءُ/
ورزقك ليس ينقصه التأني/ وليس يزيد في الرزق العناءُ/ ولا حزنٌ يدوم ولا سرورٌ/ ولا بؤسٌ عليك ولا رخاءُ/ إذا ما كنت ذا قلب قنوع/ فأنت ومالك الدنيا سواءُ/ ومن نزلت بساحته المنايا/ فلا أرض تقيه ولا سماءُ/ وأرض الله واسعة ولكن/ إذا نزل القضا ضاق الفضاءُ/ دَعِ الأيام تغدر كل حينٍ/ فما يغني عن الموتِ الدواءُ.
الليل والنهار مطية
قيل: من كان الليل والنهار مطيته اسرعا به، وقال الشاعر: المرءُ يفرح بالأيام يقطعها/ وكلُّ يومٍ مضىَ نقصٌ من الأجلِ.
قيل: إذا ابتسمت لك الأيام اكسبها، وقال الشاعر: إذا درَّتْ نياقك فأحتلبها/ فما تدري الفصيل لمن يكون.
قال الشاعر: ألا لا أرى على الحوادث باقيا/ ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا/ وإلا السماء والبلاد وبنا/ وأيامنا معدودة واللياليا.
بالأيام يتعظ اللبيبُ
قال الحكماء في الأيام: وما أبقت لك الأيام عذراً/ وبالأيام يتعظ اللبيبُ.
يونس بن ميسرة
قال: رُبَّ يوم بكيتُ منه فلما/ صرتُ في غيرهِ بكيتُ عليه.
ومثله: وما مر يوم ارتجي فيه راحة/ فأخبره إلا بكيت على أمسي.
نلهو وأيامنا تذهب
قال أبو العتاهية المتوفي سنة 211هـ: أنلهو وأيامنا تذهبُ/ ونلعبُ والموتُ لا يلعبُ/ وكل له مدة تنقضي/ وكل له أثر يُكتبُ.
وقال طرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً/ ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّدِ/ ويأتيك بالأنباء من لم تبح له/ بتاتاً ولم تضرب له وقت موعدِ.
سل الأيام
قال الإمام علي المتوفى سنة 40هـ:
سل الأيام عن أمم تقضت/ ستنبئك المعالم والرسومُ/ تروم الخلد في دار الدنايا/ فكم قد رام غير ما ترومُ.
وقيل: وما هذه الأيام إلا مراحل/ يحث بها داع إلى الموت قاصد/ وأعجب شيء لو تأملت أنها/
منازل تطوى والمسافر قاعد.
وقيل: من ضامن لك والأيام غادرةٌ/ أن ليس ينشب فيك السهم يا باري.
وأيضا: تسير بنا الأيام وهي حثيثة/ ونحن قيام فوقها وقعودُ.
و.. وعندي من الأيام ما ليس عندهُ/ فقلت: تعلَّم إنما أنت حالمُ.
الدنيا تطعم أولادها وتأكلهم
قال الشاعر: فلا تغرنك الدنيا بزينتها/ وانظر إلى فعلها بالأهل والجار.
قيل: إن الدنيا تطعم أولادها وتأكل أولادها.
وقيل: قد شاب رأسي ورأس الدهر لم يشب، و.. إن الحريص على الدنيا لفي تعب، و.. إن الدنيا تنطق بغير لسان فتخبر عما يكون بما قد كان، و.. غضارة دنيا أظلم العيش بعدها/ وعند غروب الشمس يُعرف فقدها.
قيل: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً يزداد عطشاً حتى يقتله.
قال أبو العتاهية: كلنا نكثر الملامة للدنيا/ وكل بحبها مفتونُ/ والمقاديرُ لا تناولها الأوهام/ لطفاً ولا تراها العيونُ/ ولركب الفناء في كل يوم/ حركاتٌ كأنهن سكونُ.
لو دامت لغيرك ما وصلت إليك
قيل: إنما الدنيا شجون تلتقي/ وحزين يتأسى بحين. وقيل: أهل الدنيا كل فيها/ هلا، هلا، وقتاً، وقتاً.
قال محمد بن يسير البصري من شعراء الدولة العباسية:
وأيُ شيء من الدنيا سمعت به/ إلا إذا صار في غاياته انقطعا.
قيل: الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار.
قال الشاعر: ولا شيء يدوم فكن حديثاً/ جميل الذكر فالدنيا حديث.
وقيل عن حال الدنيا: كانت خليات نحل وهي عامرة/ لما خلا نحلها صارت خَليَّات.
قطرة في عباب
قيل: كنا فصرنا قطرة في عباب/ عشنا وعدنا ذرَّة في التراب/ جئنا إلى الأرض ورحنا كما/
دبَّ عليها النملُ حيناً وغاب.
موعظة عظيمة
قال وهب بن منبه: أصبت على قصر غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء في اليمن، وكان من الملوك الأجلَّة فرأيت مكتوباً بالقلم المندي فترجم إلى العربية، فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة: باتوا على قلل الأجيال تحرسهم/ غلب الرجال فلم تنفعهم القللُ/ واستنزلوا من أعالي عز معقلهم/ فأسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا/ ناداهمو صارخ من بعدما دفنوا/ أين الأسرة والتيجان والحللُ/ أين الوجوه التي كانت محجبة/ وكان من دونها الاستار والكللُ/ فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم/ تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ/ قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا/ فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أُكلوا.
السعيد من وُعِظ بغيره
قيل: الأول سابق والآخر لاحق والسعيد من وعظ بغيره.
قال الشاعر: هذي منازل أقوام عهدتهم/ يوفون بالعهد مُذ كانوا وبالذممِ/ تبكي عليهم ديار كان يطربها/ ترنم المجد بين الجود والكرمِ.
قيل: دنياك ما أنت فيه
وقال الشاعر: لا تعجبن من هالكٍ كيف هوى/ بل فأعجبن من سالمٍ كيف نجا.
حسن الظن بالأيام
ألم تر أن الله أهلك تبعاً/ وأهلك لقمان بن عادٍ وعاديا/ ألا، لا أرى ذا أمة أصبحت به/ فتتركه الأيام وهي كما هيا/ ألم ترَ للنعمان كان بنجوةٍ/ من الشر لو أنَّ امرءاً كان ناجيا.
وقيل: فلا يأمن الأيام إلا المضلل/ ولا يغتر بالسلامةِ إلا المغفل.
وأيضا: وقد تسلب الأيام حالات أهلها/ وتعدو على أسد الرجال الثعالبُ.
و.. أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنُت/ ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ/ وسالمتك الليالي فأغتررت بها/ وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ.
و.. ما أسرع الأيام في طينا/ تمضي علينا ثم تمضي بنا.