إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.
والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.
فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.
موضوع حلقة اليوم عن نعمة الحياة التي وهبنا الله إياها، وعن جمالها، وعن ضرورة صونها والحفاظ عليها، وشكر الله عليها، وأيضا عما قيل فيها شعرا ونثرا ومأثورا، وقد قال المتنبي: ولذيذُ الحياةِ أنفسُ في النفسِ/ وأشهى من أن تملَّ وأحلى. (أي إن الحياة لا تمل وهي أعز وأحلى من أن يملها صاحبها.( وأيضا عما قيل في وجهها الثاني وهو الباكي.. أي الموت وهو حق.
هبَّت الحياة
ويحضر جبران هو الآخر حيث يقول: هلمي يا محبوبتي نمشي بين الطلول، فقد ذابت الثلوج، وهبت الحياة في مراقدها، وتمايلت في الأودية والمنحدرات، سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الرُبىَ ونتأمل تموجات اخضرار السهول حولها.
وقلت: ها قد جاء الربيع الطلق يختال ضاحكاً بثوبه المزركش الجميل، ونسيمه العذب البديع، وسهوله الخضراء الخلابة. هنا فراشة ترقص على أنغام عصفور يزغرد، وهناك نحلة تمتص عذب الرحيق تخفق بجناحيها عبر مروج تمتد على بعد النظر.
اكتست التلال والهضاب حلة جديدة تسلب العقول وتبهج العيون. يلامس مسامعي خرير الماء المتدفق بين الصخور ويدغدغ مشاعري.. إنها بداية دورة الحياة الجديدة. فهلمي نسير معاً يداً بيد نحو الأفق البعيد، نحلق في سماء صافية تضحك لنا وتبتسم، ونشم عطر الليمون والنرجس والاقحوان. لنسير معاً نحو حياة جديدة قبل فوات الأوان، وقبل أن ينكسر كأس العمر.
ثم قال شعرا: وما الحياة سوى نومٍ تراودهُ/ أحلام من بمراد النفس يأتمرُ/ والسر في النفس حزن النفس يسترهُ/ فإن تولىَ فبالأفراحِ يستترُ/ والسر في العيش رغدُ العيش يحجبهُ/ فإن أزيل تولىَ حجبهُ الكدرُ/ فإن ترفعت عن رغدٍ وعن كدرٍ/ جاورت ظلَّ الذي حارت به الفكرُ.
كل ثوبٍ إذا ما رثَّ ينخلعُ
ولأن للحياة وجه آخر لا يستهان به، وبه من الشقاء ما لا يفرح به عاقل، لكون الدنيا دوارة كما يقال وما قيل في ذلك :تعبٌ كلها الحياة فما أعجب/ إلا من راغبٍ في ازديادِ.
وقال آخر: إن الحياة شقاءٌ كلها فإذا/ لا بدَّ منها فحاذر صحبة الناسِ/ ولا يغرنك حزم ثغرُ مبتسم/ ما الابتسامة في ثغرٍ بمقياسِ.
وقيل: وكيف يُدرك ما في الغيبِ من حدثٍ/ من لم يزل بغرورِ العيشِ ينخدعُ/ يسعىَ الفتى لأمور قد تضرُّ به/ وليس يعلمُ ما يأتي وما يدعُ/ يا أيها السادر المزور من صلف/ مهلاً فإنك بالأيام منخدعُ/ إن الحياة لثوبٌ سوف تخلعهُ/ وكل ثوبٍ إذا ما رثَّ ينخلعُ.
حزمة من المتفرقات
للحياة وجهان.. ضاحك وباكي، الوجه الضاحك مع المولود، والوجه باكي على المفقود، وذلك عند الموت فـ ( كل نفس ذائقة الموت).. فما هو ذاك؟ هل هو جزء مكمل لهذه الحياة؟ ولكل شيء فيها نهاية. تقول فلسفة جبران: لكم أن تعرفوا سر الموت، ولكن كيف تجدونه ما لم تطلبوه في صميم الحياة؟ وإذا شئتم حقاً أن تشاهدوا روح الموت، فافتحوا قلوبكم واسعة لجسد الحياة، لأن الحياة والموت واحد، كما أن النهر والبحر واحد أيضاً. وفي أعماق آمالكم ورغباتكم تكمن معرفتكم الصامتة لما فوق.
يقول الشاعر: الموتٌ بابٌ وكل الناس داخله/ فليت شعري بعد البابِ والدارُ/ لو كنتُ أعلم من يدري فيخبرني/ أجنة الخلدِ مأوانا أم النارُ.
ويقول آخر: ألا يا موت لم أر منك بداً/ أبيتَ فما تحيفُ ولا تحابي/ كأنك قد هجمت على مشيبي/ كما هجم المشيبُ على شبابي.
ما جاءت به الأمثال
يقال: كل حي ميت وكل جديد بالٍ، و.. لكل نفس أجل.
قال الشاعر: فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي/ فدعني أبادرها بما ملكت يدي/ أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي/ عقيلة مال الفاحشِ المتشددِ/ فإن متّ فأنعيني بما أنا آهله/ وشقي عليَّ الجيبَ يا ابنة معبدِ/ أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى/ بعيداً غداً ما أقرب اليوم من غدِ/ لعمرك ما أدري وإني لَواجلٌ/ أفي اليوم إقدام المنية أم غدِ؟
يقال: إذا حان القضاء ضاق الفضاء، و.. لكل أجل كتاب، و.. الحي أفضل من الميت.
فداحة عواقب موت الراعي
لكن أن يموت الكريم ذو الفضل على الكثيرين فكأن بموته يموت كل من يرعاهم، وقد قال عبدالله ابن المقفع في ذلك: وأنت تموتُ وحدك ليس يدري/ بموتك لا الصغيرُ ولا الكبيرُ/ وتقتلني فتقتل بي كريماً/ يموتُ بموتهِ بشرٌ كثيرُ.
قال عبده بن الطبيب وهو يرثي قيس بن عاصم الذي توفي سنة 20هـ: ميتة الأبطال فيها شممٌ/ طأطأت من دونه الشم الجبال.
وقيل فيه أيضاً: فما كان قيس هلكه هلكُ واحدٍ/ ولكنه بنيان قوم تهدما.
ما أدنى الممات إلى الفتى
قيل: خليليّ ما أدنى الممات إلى الفتى/ وأقرب حبل العمرِ أن يتقطعا/ ولم تطلع الأقمار إلا لتختفي/
ولا عقرب الساعات إلا لنلسعا/ فإن لم يكن إلا نهارٌ وليلةٌ/ فما أجدر الإنسان أن يتمتعا.
يقال: فر من الموت وفي الموت وقع، و.. لا يموت الإنسان إلا بموعده، و.. تعددت الأسباب والموت واحد.
قال زهير بن أبي سلمى :سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولاً لا أبالك يسأمِ/ رأيت المنايا خبط عشواء من تُصب/ تمته ومن تخطئ يعمر فيهرمِ.
أَحَب الناس وأبغضهم
قيل: أحب الناس إلى الله من سأله، وأبغض الناس إلى الناس من احتاج إليهم، و.. الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. و.. من عرف نفسه لم يضره قول الناس فيه، و.. لا تلتمس رضا الناس جميعاً لأن ذلك شيء لا يُدرك.
لا تغتر بالناس
قال الشاعر: فلا تغترِ بالناسِ ما كل من ترى/ أخوك إذا أوضعت في الأمرِ أوضعا.
وقال آخر: درجت أعصرٌ ومرت قرونُ/ وأُناسٌ لغيرهم أجراءُ/ وأُناسٌ كما تريد تكونُ/ وأُناسٌ كما يريد الشقاء.
قال أبو سليمان الخطابي: شر السباعِ العوادي دونه وزرٌ/ والناسُ شرّهمُ ما دونَهُ وِزْرُ/ كم معشرٍ سَلِموا لم يؤذهم سَبُعٌ/ وما نرى بشراً لم يؤذهِ بشرُ.
فضائل الرجال
قيل: فرب ألف رجل يعدَّون عن رجل، ولربما واحد أفضل من ألف رجل.
ويوافق ذلك شعرا حيث الشاعر قال: والناس ألف منهم كواحد/ وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَى/ وللفتىَ من ماله ما قدمت/ يداه قبل موته، لا ما اقْتَنَى.
قالوا: ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه، و.. الناس عبيد الدنيا، و.. الناس نهب المصائب، و.. ليس على الإنسان إلا ما ملك، و.. إن قارضت الناس قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك.
الناس بخير ما تباينوا
قيل: شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، و.. ناس يشاهدون الحدث وناس يصنعون الحدث وناس يتساءلون عما حدث، و.. الناس بخير ما تباينوا (أي ما دام فيهم الرئيس والمرؤوس)، و.. أملك الناس لنفسه أكتمهم لسره، و.. ما الناس إلا أكمه وبصير (يُضرب في التفاوت بين الخلق).
قيل: الناس مثل بيوت الشِّعر، كم رجل منهم بألفٍ، وكم بيت بديوانِ.
وقال شاعر آخر: المرءُ في زمن الإقبالِ كالشجرة/ فالناسُ من حولها ما دامت الثمرة/ حتى إذا اسقطت كل الذي حملت/ تفرقوا وارادوا غيرها شجرةْ.
أمثال بإذا
لقد حاولت قدر الإمكان تجميع الأمثال التي تبدأ بـ (إذا) وقمت بتوضيبها تسهيلاً للقارئ الكريم. قال حكيم عربي: إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك.
وقيل: إذا ضربت فأوجع، وإذا زجرت فأسمع (يضرب هذا المثل في المبالغة وترك التواني والعجز). و.. إذا نُصر الرأي بطل الهوى (يُضرب في اتباع العقل)، و.. إذا كنت في قوم فأحلب في إنائهم (يُضرب في الأمر بالموافقة)، و.. إذا أردت أن تحيِّره فخيِّره (أي اجعله يختار)، و.. إذا كنت مناطحاً فناطح بذوات القرون (أي لا تنازل أو تبارز ما لم تكن جاهزا ومستعدا)،و.. إذا أدبر الدهر عن قوم كفى عدوهم، و.. إذا ساعدهم الدهر كفاهم أمر عدوهم.
قال الشاعر أبو القاسم الشابي :إذا ما طمعت إلى غايةٍ/ ركبتُ المنى ونسيتُ الحذرْ/ ولم أتجنبْ وعور الشعاب/ ولا هبة اللهب المستعرْ/ ومن يتهيب صعود الجبال/ يعشْ أبد الدهر بين الحفرْ.
أقوال
قيل: إذا ظلمت من دونك فلا تأمن عذاب من فوقك، و.. إذا قام جناة الشر فأقعد، و.. إذا زلَّ العالِمْ زلَّ بزلته عَالَمْ)، و.. إذا كُويت فانضج، وإذا مضغْت فادقق (يُضرب في الحث على إحكام الأمر).
قال الشاعر: إذا وتَرْتَ امرءاً فاحذر عداوته/ من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا.
وهذا يشبه حكمة: من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة.
وقيل: إذا كفاك الإيجاز فالإكثار غي، و.. إذا زاد الشيء عن حده فقد حده، و.. إذا ذهب الحياء فافعل ما تشاء، و.. إذا حضر الماء بطل التيمم (ومعناه إذا حضر صاحب الصنعة فلا رأي لمن سواه)، و.. إذا أبغضك جارك فحوِّل باب دارك، و.. إذا كان صاحبك عسل فلا تلحسه كله (أي إن الصديق ذخيرة لشدة)، و.. إذا وقعت يا فصيح لا تصيح، و.. إذا حلِق رأسك جارك فبلل شعرك، و.. إذا جد السؤال جد المنع، و.. إذا حَلَقَ ابن عمك بليت.
قال الشاعر: حُلِقَتْ لحية جارٍ له/ فليسكب الماء على لحيتِه.
حر بموطنه الفتى
قيل: إذا أكلت كل واشبع، و.. إذا ضربت اضرب واوجع، و.. إذا جارك بخير أنت بخير، و.. إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب، و.. إذا أقبلت أدهشت، وإذا أدبرت أمحلت ( والمقصود: الدنيا)، و.. إذا ارتشى القاضي كثرت شهود الزور، و.. إذا صافحك عد أصابعك ( والمقصود: اللص)، و.. إذا سقط الجمل كثرت سكاكينه.
ومن الشعر قيل: إذا لم يعش حراً بموطنه الفتىَ/ فسمِّ الفتى ميتاً وموطنه قبرا.
وقال آخر: إذا ضيَّقت أمراً ضاق جداً/ وإنْ هوَّنت ما قد عزَّ هانا/ فلا تهلك لشيء فات يأساً/ فكم أمرٌ تصعّب ثم لانا.
شدة الزمان
قيل: و.. إذا أصابك في زمانك شدة/ وأصابك الخطب الكريه الأصعبُ/ فادع لربك إنه أدنىَ لمن/ يدعوه من حبل الوريد وأقربُ.
و أيضاً قيل :إذا قلَّ عزمي عن مدى خوف بُعدهِ/ فأبعدُ شيءٍ ممكنٌ لم يجد عزما. )والمعنى: إذا كنت تحتاج إلى العزم لنيل القريب، فاعزم على البعيد لتناله ولا يمنعك خوف بُعده فإنه يُقرَّبُ بالعزم). بهذا المعنى قال أحد الحكماء: لحقوق البغية في نيل الشهوات أصعب الأشياء وأعجز من العجز من لم يقوَ عزمه في طلب الغاية.
الدنيا
وقيل فيها: إذا أقبلت كادت تُقاد بشعرة/ وإن أدبرت كانت تقد السلاسلا.
ويقال :إذا عبت أمراً فلا تأتهِ/ فذو اللبِّ مجتنب ما يعيب (اللب بمعنى العقل).
وهو يشبه قول: لا تنه عن خلق وتأتي مثله. قال حكيم: إذا رمت أمراً فلا تعجلن/ وإلا ندمت على فعلهِ/ فما عثرة المرء قتالةٌ/ إذا كان يمشي على مهلهِ.
ويقال في حال أمتنا اليوم: إذا ما رأينا واحد أقام بانياً/ هناك رأينا خلفه ألف هادمِ.
إذا ازدحم الجواب خفي الصواب
يقال: إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق، و.. إذا أردت أن تطاع فسَلْ ما يستطاع، و.. إذا قدم الإخاء سُمِعَ الثناء، و.. إذا ازدحم الجواب خفي الصواب.
و.. إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت له عين، فلا تقضي له حتى يأتيك خصمه فلعله فقئت عيناه.
واخيرا.. إذا ناب قومي حادث الدهر نابني/ وإن كنت عنهم نازحَ الدارِ نائياً.
وغدا لنا بإذن الله لقاء.
وفي الذكر الحكيم
( أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا )
سورة مريم آية