متغيرات وتحولات كثيرة على المستوى الإقليمي والدولي، تتسارع وتيرتها لتشكل واقعاً مختلفاً في علاقاته وتحالفاته.
تلك التحولات الكونية جعلت القارة السمراء ساحة لأكبر تنافس دولي محموم على الإطلاق، كونها تمثل مخزوناً للموارد الطبيعية، غير المستغلة، في ظل التناقص المستمر للموارد، فيما يبرز هذا التنافس، بشكل أكثر وضوحاً من خلال التطورات التي تشهدها منطقة الغرب الأفريقي، مع تضعضع النفوذ الغربي الفرنسي التاريخي، وصعود لاعبين جدد أكثر تأثيراً، وأسرع تمدداً، مثل: روسيا، والصين، وغيرهما من القوى الجديدة.
يتزامن التنافس الدولي المتزايد مع موجات احتجاج شعبية في عدة دول أفريقية، ولا سيما دول الغرب الأفريقي، التي تنادي بضرورة إنهاء النفوذ الفرنسي، وسط مزاج عام، أكثر ميلاً للقوى الدولية الجديدة؛ لبناء علاقات تقوم على المصالح المتبادلة، بعيداً عن التدخلات في الشؤون الداخلية، حيث أجبرت الاحتجاجات الشعبية في جمهورية بوركينا فاسو، الحكومة الانتقالية هناك على إمهال القوات الفرنسية الموجودة على أراضيها مدة شهر للانسحاب، بعد تعليق الاتفاق الذي ينظم الوجود العسكري الفرنسي في أراضيها.
ولم يكن قرار واغادوغو بانسحاب القوات الفرنسية الأول، وقطعاً لن يكون الأخير من دول الساحل الأفريقي، إذ سبق أن سحبت فرنسا العام الماضي، آخر جندي من قواتها في مالي، بعد تواجد دام تسع سنوات، بعد الرفض الشعبي والرسمي للوجود العسكري الفرنسي في البلاد، في ذات الوقت الذي شهدت فيه بلدان أخرى احتجاجات رافضة للوجود العسكري الفرنسي، ما يجعل النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي على المحك، وفق مراقبين.
السودان ليس بعيداً
السودان لم يكن بعيداً عن تلك المتغيرات الإقليمية، ومع تزامن زيارة ستة مبعوثين دوليين، ممثلين للولايات المتحدة، وبريطانيا، والنرويج، وألمانيا، وفرنسا، والاتحاد الأوروبي، ومع زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الخرطوم، إلا أن في ذلك إشارة واضحة إلى مستوى التنافس حول القارة الأفريقية.
مزاحمات قوية
من ناحيته، يؤكد الخبير العسكري، وخبير إدارة الأزمات، اللواء الدكتور، أمين مجذوب، لـ«البيان»، أن زيارة وزير الخارجية الروسي خلال الأسابيع الماضية إلى الخرطوم، تأتي في إطار الاتفاقات السابقة التي تمت بين السودان وروسيا، الخاصة بالمركز اللوجستي أو القاعدة البحرية في بورتسودان.
وينوّه مجذوب إلى أن روسيا تحاول مزاحمة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا في الملف السوداني، باعتبار أن البحر الأحمر منطقة صراع نفوذ بين تلك الدول، إلى جانب أن هناك ملفاً ثالثاً مهماً جداً، هو ما يدور في أفريقيا الوسطى، وتشاد، ووجود شركة «فاغنر» الروسية للخدمات الأمنية، هذا الأمر عقّد كثيراً من مشهد الوجود الروسي في القارة السمراء.
وأضاف «السودان لديه علاقات بأطراف الأزمة، حيث كانت هناك زيارات لرئيس مجلس السيادة ونائبه إلى تشاد، مع وجود اتهامات بدخول ميليشيات من بعض القبائل السودانية في النزاع بأفريقيا الوسطى». ويبرهن مجذوب على أن السودان أصبح بموقعه الجيواستراتيجي، منطقة صراع ونفوذ لقوى إقليمية ودولية.
وتابع «واضح أن حرب الموانئ بدأت، فكل دولة تسعى لحجز موقعها على الساحل السوداني، وما يمتاز به الأخير أنه نظيف، ويحتمل وجود موانئ ومرافق قادرة على تقديم 90% من الخدمات عبر البحر الأحمر للنفط من منطقة الخليج العربي، الذي يذهب إلى الولايات المتحدة، واقتصادات جنوب شرقي آسيا»، مفيداً بأن «من يسيطر على المجرى المائي، يستطيع أن يخنق الطرف الآخر، وكذلك من يهيمن على الأراضي الصالحة للزراعة».
موطئ قدم
قابل تراجع النفوذ الغربي في القارة السمراء، تمدد متسارع للنفوذ الروسي والصيني، الذي استطاع أن يجد موطئ قدم داخل العمق الفرنسي في أفريقيا، من خلال خلق شراكات اقتصادية وتجارية، صاحبها انفتاح ثقافي، ومع ارتفاع حدة الصراع بين الدول العظمى حول الثروات والمعادن التي تزخر بها القارة، وخاصة بعدما أدارت فرنسا ظهرها لأفريقيا على مدار العقدين الأخيرين، الأمر الذي فتح المجال للصين بأن تتمدد اقتصادياً وثقافياً في جنوب الصحراء من خلال تدريس اللغة الصينية في العديد من الجامعات الأفريقية، وتكثيفها لحضورها عبر العمل الإغاثي والإنساني والتنموي في القارة.
تمدد روسي
من ناحيته، يصرح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة «أفريقيا» العالمية بالخرطوم، الدكتور الزمزمي بشير، لـ«البيان»، بأن التمدد الروسي في أفريقيا محدود لحد الآن، ولكنه مؤثر، ومرجح له أن يكون أكثر تأثيراً في الأعوام المقبلة، ولا سيما بعد التحولات ومجريات الأحداث على المستوى الدولي، التي سوف تنعكس على شكل التحالفات القائمة، لافتاً في ذات الوقت إلى النفوذ الصيني الذي بات الأكثر تمدداً في القارة السمراء، ولا سيما في ما يتعلق بالمجال الاقتصادي والتجاري، وابتعاده عن التدخل في طبيعة الأنظمة الحاكمة.
ونوّه بشير إلى أن هناك حالة من الملل، وشعوراً عاماً بالضيق، من النفوذ الفرنسي في عدد من دول غرب أفريقيا، ولا سيما في مالي، وتشاد، وأفريقيا الوسطى، وبوركينا فاسو، والذي سوف تنتقل عدواه لبقية شعوب المناطق الخاضعة تاريخياً للنفوذ الغربي عموماً، والنفوذ الفرنسي خصوصاً، إذ نجحت فرنسا عبر الموالين لها في تحجيم الأصوات المناوئة لوجودها في تلك الدول، بيد أنه قال إنه، وبعد المتغيرات العالمية، ليس بمقدور باريس السيطرة على الأصوات الرافضة لها في المنطقة.
وأضاف إن بروز نخب جديدة في دول غرب أفريقيا، اعتنقت ثقافات جديدة، تحمل أفكاراً مناهضة للهيمنة الفرنسية، تعتبر الوجود الفرنسي، حجّم دول الغرب الأفريقي عن النهوض، فيما اتجهت النخب إلى محاولة خلق شراكات جديدة بعيداً عن الغرب، لتجد الأبواب مشرعة أمامها عبر المنح الدراسية المقدمة في الجامعات والكليات العسكرية الروسية الصينية والعربية، وسط تراجع ملحوظ في حجم المنح الدراسية من قبل الجامعات الفرنسية، بالإضافة إلى الفرص الاقتصادية والتجارية المتاحة من قبل تلك الدول.
توغل صيني
ويؤكد بشير أن الصين نجحت في التوغل في القارة السمراء من خلال المبادرات الاقتصادية العملية، كما استطاعت أن تخلق علاقات اقتصادية متماسكة مع الكثير من البلدان الأفريقية، وعقدت حتى الآن أكثر من 6 قمم أفريقية-صينية، تركزت جلها حول العمليات الاقتصادية، وكيفية رفع حجم التبادل التجاري الصيني-الأفريقي.
ويلفت إلى أن مبادرة طريق الحرير الجديد التي وجدت تأييداً من عشرات دول القارة، فتحت الأفق لشراكات ضخمة، في مشروعات تنموية تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات، ما يتيح المنافع المتبادلة بين الصين وأفريقيا.
تزايد السخط الشعبي
من جانبه، يقول المحلل السياسي، الجميل الفاضل لـ«البيان»، إن موجة الانقلابات العسكرية في السنوات الأخيرة في منطقة الغرب الأفريقي، وما تبع ذلك من تغيير المواقف والعلاقات التقليدية القائمة بين فرنسا ورابطة «الدول الفرانكفونية»، إلى جانب موجة السخط الشعبية الرافضة للنفوذ الفرنسي، تعد أحد العوامل الرئيسة في تغييرات القارة، إذ إنه في غالب التغيرات التي جرت عن طريق انقلابات عسكرية بغرب القارة الأفريقية، مع التضعضع الواضح للنفوذ الفرنسي، الذي نتج عن الشعور الشعبي العام بأن فرنسا ظلت تستغل ثروات وموارد دول غرب أفريقيا، تم تنفيذ حملات لترسيخ تلك المفاهيم لدى شعوب المنطقة، وبدأت حالة التململ الشعبي من الوجود الفرنسي.
كما أن من العوامل التي قادت تزايد السخط ضد فرنسا، الأداء الميداني الضعيف للقوات الفرنسية في عملية «برخان» الهادفة لمحاربة التمرد في الساحل الأفريقي، ما ولّد شعوراً بأن باريس ليس لديها ما تقدمه لتلك الدول من خلال الوجود العسكري على الأرض، وفي ذات الوقت فإن تلك القوات تتهم بأنها غطاء لنهب ثروات شعوب الساحل.
عوامل مساعدة
ويرى الفاضل أن كل تلك العوامل ساعدت روسيا على خلق قادة حلفاء موالين لها في منطقة الغرب الأفريقي، مشيراً إلى أن وجود قوات «فاغنر» شبه العسكرية الروسية في بعض البلدان وخاصة في أفريقيا الوسطى، وما تقوم به من أدوار في حماية السلطة القائمة الآن بانجي، ما أدى إلى موجة طرد السفراء في مالي أو بروكينا فاسو التي منحت القوات الفرنسية المتواجدة في أراضيها مهلة شهر للمغادرة.
ويرجع الفاضل تضعضع النفوذ الفرنسي لأخطاء فرنسا في المنطقة والأداء الضعيف لعملية برخان، فضلاً عن الانطباعات السلبية التي ترسخت وفق عمل دعائي وإعلامي منظّم ضد فرنسا، تزامن مع انقلابات عسكرية، ووجد قادة تلك الانقلابات ضالتهم في التعاون مع روسيا التي لا تتمنع في التعامل مع الأنظمة الانقلابية، عكس الدول الغربية التي تقيدها قوانينها وبرلماناتها من التعامل مع النظم الانقلابية.