تعاني القارة العجوز، مع تنامي تدفقات المهاجرين غير النظاميين، يوماً تلو الآخر، لا سيما في ضوء تفاقم الصراعات والتوترات في العديد من دول العالم، خصوصاً في أفريقيا، الأمر الذي يزيد أعداد الفارين من أوضاع بلدانهم المزرية إلى أوروبا «قارة الأحلام»، التي ترسو على سواحلها قوارب المهاجرين من شمال القارة السمراء، دون وجود اتفاق أوروبي على صيغة مشتركة للتعامل مع ملف الهجرة غير النظامية، في ظل خلافات واسعة وانقسامات بين العديد من الحكومات، لا سيما بين الأكبر فيها، مثل: ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، فضلاً عن بريطانيا.

في ضوء هكذا انقسامات، لم تفلح المساعي الأوروبية في التوصل إلى حلول مشتركة حول إيجاد مخرج لأزمة الهجرة غير النظامية، من شأنه معالجة المعضلة التي تواجه دول القارة العجوز التي تشكو من فقر بالأيدي العاملة المؤهلة في شتى المجالات والقطاعات.

وفيما تئن الاقتصادات الأوروبية تحت وطأة الضغوطات التي تفرضها الأزمات الجيوسياسية المتصاعدة، تزيد التدفقات الكثيفة للمهاجرين غير النظاميين الاختناق الأوروبي، كما تثير سجالات عدة بشأن تقاسم الأعباء، وهي المعضلة التي كانت حاضرة بقوة على طاولة «قمة غرناطة»، أكتوبر الماضي، وما سبقها من لقاءات واجتماعات تحضيرية.

مع صعود أحزاب اليمين إلى سدة الحكم في عدد من الدول الأوروبية، سواء لجهة توليها أم حتى مشاركتها في الحكم، تظل أزمة المهاجرين غير النظاميين، ملفاً كبيراً للمساومات السياسية، التي تعمل على تأليب الرأي العام الأوروبي، نتيجة عوامل سياسية بحتة، بينما تتبنى دول وأحزاب أوروبية أخرى مواقف أقل تشدداً من اليمينيين، وهو مكمن الخلاف الأبرز حول طرق التعاطي مع الملف برمته.

وما بين إصرار بريطانيا، والنمسا، على نقل المهاجرين غير النظاميين، ودعم إيطاليا لاتفاق إنشاء مراكز لهم في ألبانيا، فضلاً عن المناقشات الفرنسية الداخلية حول قانون مثير للجدل، وصفه مراقبون بأنه محاولة طرد للاجئين، وغيرها من المواقف والأطروحات الأوروبية، ثمة زخم أوروبي واسع، يثير جدالاً كبيراً داخل وخارج القارة العجوز، حول التعامل مع ملف الهجرة غير النظامية، على ما لها من ارتباطات، وتشعبات، سياسية، واقتصادية، واجتماعية.

يأتي ذلك في وقت يعكس تعثر تطبيق الاتفاق الذي أبرمه الاتحاد الأوروبي مع تونس، لدعم الأخيرة في الحد من تدفق المهاجرين غير النظاميين، ليكون علامة أخرى واضحة على عمق التحديات التي تواجه الأوروبيين في التوصل إلى حلول عملية، ومباشرة، تمكنها من استيعاب أزمة الهجرة غير النظامية، بينما يدفع تصاعد المخاطر الجيوسياسية، واحتدام التأزمات الداخلية في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نتيجة تدهور أوضاعها الداخلية، أو تأثرها بارتدادات الأزمات الخارجية، نحو تنامي معدلات الهجرة غير النظامية، بصورة كثيفة، تعرب حكومات القارة العجوز عن قلق متزايد، وتتقاذف المسؤولية فيما بينها.

تتبنى كل دولة أوروبية، على حدة، تصورات خاصة بشأن التعامل مع ملف الهجرة غير النظامية، بيد أنها ليست متطابقة بشكل واسع، الأمر الذي يحول دون ترجمة الزخم الحالي بشأن الملف إلى خلق اتجاه عام يمكن البناء عليه، للتعامل في ضوء اتفاقات ومواثيق دولية مختلفة.

 

ملف متشعب

من برلين، يصف مؤسس مركز «بروجن» للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، رضوان قاسم، في حديثه لـ«البيان»، «الهجرة غير النظامية» بالملف المتشعب بالنسبة للحكومات الأوروبية، لأسباب عدة، منها: ما هو داخلي (مرتبط بكل دولة على حدة، والظروف الخاصة بها)، وما هو متعلق بالاتحاد كتكتل، ومنها كذلك ما يتعلق بالعلاقات الخارجية، والوضع الدولي العام، مشدداً على أن كل تلك العوامل، دفعت إلى إخفاق الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى صيغة محددة للتعاطي مع هكذا ملف.

وينوه إلى تعارض الاتفاقات، والتشريعات المحلية، في بعض الأحيان، مع اتفاقات الاتحاد الأوروبي، وإن أجريت عليها بعض التعديلات، في وقت تبحث دول أوروبا عن حلول، كان آخرها «قمة غرناطة»، لكنها لم تفلح في التوصل إلى حلول جذرية أو أقلها: عملية، ومنطقية (..).

ويضيف مؤسس «بروجن»: «يحوي الملف الكثير من التعقيدات، كالوضع الداخلي، المرتبط بتناقض توجهات الأحزاب الحاكمة ونظيرتها المعارضة، فضلاً عن الخلافات بين الدول الأوروبية ذاتها، منها: المتصلة بتوزيع الحصص، وحدود تحمل المسؤولية، وتقاسم الأعباء، والدول الأوروبية الصغيرة، المستفيدة مادياً عبر الضغط على مثيلاتها الغنية من بوابة ملف الهجرة غير النظامية (..)». إلى ذلك، تبدي بعض الحكومات الأوروبية رغبتها في دعم الهجرة ضمن ظروف معينة، بغية استقطاب الكفاءات من أصحاب المؤهلات والخبرات.

ويسقط قاسم المثال على ألمانيا، الاقتصاد الأوروبي الأكبر، كنموذج للخلافات الداخلية بين الحكومة والمعارضة، حيث النزعة المتطرفة لدى بعض الأحزاب بشأن استقبال اللاجئين، لا سيما التوظيف الدعائي لهذه النزعة للوصول إلى السلطة عبر طرح هكذا ملفات على الرأي العام، لكسب أصوات الناخبين.

بينما تدفع الأوضاع الاقتصادية المتردية، وكذلك الحروب، والكوارث الطبيعية، في دول بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى تزايد معدلات الهجرة غير النظامية إلى القارة الأوروبية، لا يعتقد مؤسس «بروجن»، أن أوروبا قادرة على المواجهة الحقيقية لملف الهجرة غير النظامية، أو إيجاد حلول جذرية له، في ظل استمرار تدفق المهاجرين غير النظاميين إليها، دون اتفاق الحكومات الأوروبية على صيغة موحدة.

 

جزيرة لامبيدوزا

يظهر تقرير حديث صادر عن مركز «المستقبل» للأبحاث والدراسات المتقدمة، في أبوظبي، تنامي الهجرة غير النظامية، من خلال تدفق ما يقرب من 8500 شخص عبر البحر الأبيض المتوسط إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، التي يقطنها نحو 7000 إيطالي، ما يثير تخبطاً وخلافاً أوروبياً، على مستوى الحكومات والأحزاب المعارضة، حول إدارة الملف، وآلية تقاسم الأعباء.

إذ انقسمت الآراء الأوروبية تجاه تفاقم أزمة اللاجئين، لاسيما القادمين عبر جزيرة لامبيدوزا، حول الاستجابة لها والتعاطي معها، والموقف العام الخاص بتقاسم الأعباء، فلم تتوقف الأزمة عند حدود الجزيرة الإيطالية، بل امتدت إلى الحدود بين فرنسا وبريطانيا، وألمانيا وبولندا، بحسب التقرير.

النمو الحالي لمعدلات المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، يرجعه خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، في حديثه مع «البيان» إلى تفاقم الأزمات السياسية، والحروب والصراعات، في الشرق الأوسط، في القارة الأفريقية، علاوة على الأزمات الاقتصادية التي تعتري العديد من الدول فيها، وهي عوامل مثلت محفزاً أساسياً لتنامي موجات الهجرة غير النظامية إلى «قارة الأحلام»، وأسهمت في زيادة حدة الأزمة في أوروبا.

ويضيف: أثر فشل الاتفاقات المبرمة بين الاتحاد الأوروبي، ودول نامية، وأخرى أفريقية (بينها الاتفاق الأخير مع تونس)، على إحلال التنمية في تلك الدول بما يحد من موجات الهجرة غير النظامية، منوهاً أن السياسات فشلت لأسباب عدة، منها سعي الحكومات الأوروبية وراء مصالحها الخاصة في الاستيلاء على خيرات الدول الأفقر منها، الأمر الذي أتى بمردودات عكسية، زادت المصاعب الاقتصادية للدول النامية، ولم تستفد شعوبها عملياً من الاتفاقات المبرمة والمشروعات المعلنة. بالتالي، تواصلت تدفقات الهجرة غير النظامية على النحو الذي تشعر معها أوروبا بالمزيد من المخاطر والضغوطات.

ويضيء بركات على تداعيات الحرب الأوكرانية في مفاقمة الضغوطات على كاهل الحكومات الأوروبية، وتوظيف ملف المهاجرين غير النظاميين واللاجئين، كأداة فاعلة للتجاذبات السياسية، وسط تعقد الأوضاع الداخلية في دول أوروبية، وزيادة التحديات الاقتصادية فيها، علاوة على صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، ما عزز حالات الاستقطاب السياسي المتصلة بملف الهجرة غير النظامية، لاسيما مع استغلال الأوضاع الاقتصادية، والكلفة على الحكومات الأوروبية، الأمر الذي ولد خطابات متشددة ضد المهاجرين غير النظاميين.

يأتي ذلك في خط متواز مع انقسامات أوروبية واضحة بشأن آليات التعامل مع الملف، بما قاد إلى الإخفاق في التوصل لحلول جماعية من شأنها معالجة المخاطر والتعاطي معها في سياق القانون الدولي.

وينوه خبير الشؤون الأوروبية، في معرض حديثه لـ«البيان»، إلى أن «السبب الرئيس وراء الخلافات الأوروبية - من بينها: التوترات بين ألمانيا وإيطاليا على سبيل المثال، وكذلك الخلاف البريطاني الفرنسي حول قوانين الهجرة -، إنما تأتي وسط اختلاف التوجهات والأيديولوجيات الخاصة بالأحزاب المهيمنة، بين أحزاب تتبنى خطاباً متشدداً، وأخرى أقل حدة».

 

معدلات الهجرة

تكشف البيانات الصادرة عن وكالة «حماية الحدود» الأوروبية، التابعة للاتحاد الأوروبي، عن ارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية إلى دول الاتحاد الأوروبي بواقع 10 %، خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وتوضح أن غالبية المهاجرين غير النظاميين وصلوا أوروبا عبر مسارات البحر الأبيض المتوسط، وسجلت الوكالة 132370 محاولة وصول غير شرعية إلى القارة العجوز.

بينما تنوه تقديرات أخرى، إلى أن عدد الوافدين لأوروبا (من يونيو 2022، ولغاية مايو الماضي) بلغ 136 ألفاً، وبلغ عددهم في إيطاليا وحدها، عبر «المتوسط»، منذ يناير وحتى سبتمبر الماضيين 130 ألفاً.

تغلف الخلافات الداخلية، المشهد الأوروبي، كما تقوض مشروعات هادفة، تسعى لتبني رؤية جماعية مشتركة، تقدم حلاً مستداماً لهذه المعضلة، المتمثل في حاجة أوروبا للأيدي العاملة في مجالات وقطاعات شتى، وفي مدى تأزمها ومعاناتها مع تدفقات المهاجرين غير النظاميين.

هذا ما يصرح به لـ«البيان»، من باريس، الكاتب والمحلل السياسي، نزار الجليدي، حيث يقول: إن خلافات الاتحاد الأوروبي حول مسألة الهجرة غير النظامية لا تنتهي، بل تزداد شقوقاً.

ويفيد: دول الاتحاد الأوروبي لا تتوافق تماماً مع فرنسا في طرحها الجديد، كونه مشروعاً عنصرياً، يغلب عليه الطابع السياسي بامتياز، ويهدف إلى تصفية قضية الهجرة غير النظامية إلى أوروبا. فيما يختلف الأوروبيون حول آليات التعاطي مع «مراكب الموت» القادمة عبر البحر الأبيض المتوسط، حاملة على متنها أفارقة حالمين وطامعين في الولوج للقارة العجوز.

يتضمن مشروع القانون الفرنسي، المثير للجدل، تسهيل إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية، خصوصاً الذين ارتكبوا جنحاً، من خلال تقليص فرص استئنافات الأحكام الصادرة أمام المحاكم الفرنسية.

وهو القانون الذي سبق أن وعد به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إبان حملته الانتخابية عام 2022، إذ تم تقديمه في فبراير الماضي، لمناقشته في البرلمان، قبل أن يتم إرجائه نتيجة الاحتجاجات الكبيرة التي شغلت الرأي العام الفرنسي حول خطة «إصلاح قانون التقاعد». ويلفت الجليدي إلى الخلافات بين ألمانيا وفرنسا، ومعهما إيطاليا، كونها الوجهة الأولى للمهاجرين غير النظاميين عبر جزيرة لامبيدوزا، والأكثر تضرراً.

بينما يختلف الأوروبيون في تحديد أطر التعامل مع جهات المصدر، وقضايا التنمية في أفريقيا، في وقت «تغض أوروبا طرفها عن حقيقة مفادها بأنها مجتمع هرِم، واقتصاد مكبل، يحتاج إلى يد عاملة، ونمو ديمغرافي»، بحسب الجليدي.

فيما يخص التعامل مع الجهات المصدرة، يشار هنا إلى الاتفاق الذي لم يكتب له النجاح عملياً، الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي، يوليو الماضي مع تونس، الذي يسعى لوقف تدفقات الهجرة غير الشرعية، بحيث تحصل تونس، بموجب الاتفاق على 105 ملايين يورو، تخصص لملف الهجرة غير النظامية، علاوة على دعم أوروبي بـ150 مليوناً، تدخل إلى موازنة الدولة التونسية، مع إمكانية منح قروض طويلة الأجل تصل لـ900 مليون.

بيد أن الاتفاق واجه عقبات عدة، في سياق آخر، تم ربط تعثر تحقيق الاتفاق الأوروبي - التونسي، بمواقف الحكومة التونسية من اشتراطات صندوق النقد الدولي.