ينتظر العالم في العام الجاري 2024 مجموعة من المتغيرات الجذرية المحتملة على الصعيد السياسي في عديد من الدول، بما لها من انعكاسات إقليمية ودولية مباشرة وغير مباشرة، ذلك مع انتخابات مرتقبة في أكثر من 50 دولة (تُشكل مجتمعة ما يصل إلى 60 % من حجم الناتج العالمي، بأكثر من ملياري ناخب.
تتفاوت تلك الانتخابات في سخونتها ما بين دولة وأخرى؛ فبينما تبدو محسومة ونتائجها متوقعة في بعض البلدان (روسيا على سبيل المثال)، فإن معارك انتخابية منتظرة حامية الوطيس تحبس الأنفاس في دول أخرى. ستكون النتائج في بعض الحالات ذات أهمية ليس فقط للبلد المعني ولكن لجيرانه أيضاً، وفي حالة واحدة على الأقل يمكن أن تكون النتائج ذات أهمية لمستقبل النظام العالمي كما نعرفه (هي حالة الانتخابات الأمريكية).
يُمكن لنتائج تلك الانتخابات جميعها أن تُعيد تشكيل السياسات الدولية إزاء عديد من الملفات المفتوحة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، وأيضاً التوترات في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن متغيرات محتملة في تركيبة العلاقات الدولية بناءً على واقع جديد يُمكن أن ترسمه تلك النتائج، لا سيما فيما يخص الانتخابات الأمريكية وحرب تكسير العظام بين الديمقراطيين والجمهوريين، وفي ظل ما تكشفه استطلاعات الرأي بشأن تراجع شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن.
المحطة الأبرز
تُشكل الانتخابات الأمريكية المحطة الأبرز والأكثر تأثيراً في تداعياتها (الوطنية والدولية) في قطار انتخابات العام 2024، لما قد تسفر عنه من تحوّلات جوهرية في السياسات الأمريكية حيال القضايا الدولية، لا سيما حال السماح للرئيس السابق دونالد ترامب بخوض الانتخابات المقبلة وتحقيقه الفوز فيها على نحو يدفع إلى حد كبير بتحول شبه كامل في مواقف أمريكية بشأن عدد من القضايا الدولية. وبخلاف الانتخابات الأمريكية، فإن من بين أهم الانتخابات التي ينتظرها العالم في 2024 وتحظى باهتمام واسع: الانتخابات في تايوان، وكذلك الانتخابات في كل من الهند و المكسيك وباكستان وانتخابات البرلمان الأوروبي.
تعزز تلك الانتخابات المرتقبة في 2024 في مجملها من حالة السيولة السياسية التي يشهدها العالم، في وقت يموج فيه بجملة من التطورات الجيوسياسية العميقة التي سجلها العام 2023 على نحو متسارع بعديد من المحاور حول العالم.
تلك الانتخابات تنذر بمزيد من التقلبات التي تنتظر العالم، ذلك أنه يمكن لها أن تصاحبها تداعيات عميقة وطويلة الأمد.
عدد غير مسبوق
ويقول الأكاديمي الأمريكي أستاذ العلاقات الدولية في كلية هاملتون في نيويورك، ألان كفروني، في تصريحات خاصة لـ «البيان» إن «العالم سيشهد عدداً غير مسبوق من الانتخابات في العام 2024. وفيما يتعلق بمعظمها سيكون التأثير وطنياً إلى حد كبير.. فمن المحتمل أن يسود مودي (رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي) في الهند، ومن المحتمل أن يسجل اليمين المتطرف مكاسب في الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي (في شهر يونيو). ويضيف الأكاديمي الأمريكي إنه: «من غير المرجح أيضاً أن تؤثر الانتخابات الروسية في شهر مارس المقبل في حد ذاتها على التطورات الجيوسياسية؛ فلقد تم استبعاد المرشحين المناهضين للحرب من صناديق الاقتراع على الرغم من الخسائر الفادحة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما زال يتمتع بدعم كبير من الشعب الروسي.. كما أن النظرة الاستراتيجية لروسيا وعلاقاتها مع الولايات المتحدة سوف تظل تعكس أولاً وقبل كل شيء البنية الأمنية الأوروبية وليس المخاوف الداخلية».
الانتخابات الأمريكية
على النقيض من ذلك «يكاد يكون من المؤكد أن تؤدي الانتخابات الأمريكية إلى زعزعة الاستقرار على المستوى الوطني، في حالة فوز ترامب، وعلى المستوى الدولي أيضاً».
يواجه ترامب عديداً من المحاكمات الجنائية على مستوى ولاية جورجيا والمستوى الفيدرالي. ومع ذلك، فقد عملت لوائح الاتهام هذه على تعزيز دعمه بين قاعدته اليمينية «MAGA»، التي ستنفجر بالغضب تجاه أي إدانة، ناهيك عن السجن.
في الوقت نفسه، يفقد الرئيس الحالي جو بايدن، الدعم بشكل مطرد، ليس أقله من داخل قاعدته الديمقراطية الأصغر سناً، والتي كانت ضرورية لفوزه في العام 2020 ولكنها تعارض دعمه غير المشروط لرد إسرائيل غير المتناسب على نطاق واسع في غزة، بحسب الأكاديمي الأمريكي.
ويضيف كفروني في معرض تحليله للمشهد قائلاً: ستكون الانتخابات في حد ذاتها فوضوية، ما يزيد من احتمالات عدم الاستقرار السياسي الداخلي وربما العنف.
تقلبات مستمرة
وفي توقعات كبار مسؤولي المخاطر، وجد المنتدى الاقتصادي العالمي أن التقلبات المستمرة في العلاقات الجيوسياسية والجيواقتصادية بين الاقتصادات الكبرى هي الأكبر مصدر قلق لكبار مسؤولي المخاطر في كل من القطاعين العام والخاص.
وبحسب المنتدى، فإن هذا ليس مفاجئاً نظراً للحرب المستمرة في أوروبا واستمرار التوترات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين. ولكنه يشير أيضاً إلى اتجاه عدائي متزايد في العلاقات الاقتصادية الدولية. ويرى المنتدى أن ارتفاع تكاليف الأعمال، والقيود التجارية، وعدم استقرار السوق، والتقلبات الحادة في السياسات هي بعض العوامل التي تدعم ذلك.
وجميعها ملفات قد تتأثر بشكل أو بآخر بطبيعة التحولات التي قد يشهدها العالم في العام 2024 على وقع نتائج بعض تلك الانتخابات المنتظرة.
مستقبل النظام الدولي
وإلى ذلك، يقول استاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا الجنوبية، ستيفن لامي، في تصريحات خاصة لـ«البيان»، إن الانتخابات مهمة بالنسبة للسياسة الداخلية، وفي بعض البلدان بالنسبة للسياسة الإقليمية أو العالمية. ويضيف: نحن في عصر القومية والعنف.. والقوى الكبرى -أو الدول التي تضع القواعد- تتقاتل حول طبيعة النظام العالمي.. فتفضل الصين وروسيا الاستبداد ورأسمالية الدولة، وتحاول الولايات المتحدة حماية النظام العالمي الليبرالي الذي أسسته في العام 1945 (بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) ولا تستطيع الدول التي تضع القواعد الاتفاق على قواعد عالمية«. ويشدد على أنه في الولايات المتحدة، سوف تحدد انتخابات العام 2024 ما إذا كان هذا النظام الدولي الليبرالي سيتمكن من البقاء.. فدونالد ترامب قومي اقتصادي وانعزالي جديد، ومن المرجح أيضاً أن يفوز في الانتخابات.. وإذا فاز ترامب في الانتخابات، فسوف تتأثر كل الانتخابات الأخرى، حيث ستتخلى الولايات المتحدة عن دورها القيادي. وبالتالي العرش سيكون شاغراً مرة أخرى، ومن ثم فالتساؤلات هي: من سيقود.. هل الصين أم روسيا أم الهند أم الاتحاد الأوروبي؟
ويأسف لامي على تلك الرؤية المتشائمة، ذلك أنه يرى أنه من المرجح أن تواجه الولايات المتحدة مشاكل داخلية حادة إذا فاز ترامب مرة أخرى.
توجهات دولية
من برلين، يقول مؤسس ورئيس مركز بروجن للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، رضوان قاسم، في تصريحات خاصة لـ«البيان»إن الانتخابات التي تشهدها أكثر من خمسين دولة حول العالم في العالم 2024 ستكون لها نتائج أساسية تسفر عن مجموعة من المتغيرات الدولية على الصعد كافة، سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، حول العالم، كما أنها ستؤثر في المطلق على التوجهات الدولية والسياسات الدولية التي نعيشها اليوم، لجهة تغيرات جذرية يمكن أن تسفر عنها نتائج بعض تلك الانتخابات.
ويشير بالأساس إلى الانتخابات في كلٍ من الولايات المتحدة وتايوان والهند.. إلخ، وهي انتخابات لها تأثيرات –سواء مباشرة أو غير مباشرة- على السياسات الدولية المختلفة، مردفاً:عندما نتحدث عن انتخابات تشمل أكثر من نصف سكان العالم، فهذا يدل على أننا قادمون على متغيرات حقيقية، مرتبطة بكل حالة على حدة لها قراءتها الخاصة.. لكن في المجمل نحن ذاهبون إلى عالم مختلف عما نحن عليه.
ويشير بشكل خاص إلى الانتخابات الأوروبية، والتي سيكون لها تأثير كبير على السياسات الغربية بشكل عام، فالبرلمان الأوروبي له دور أساسي في كل ما يحدث في العالم، وبالتأكيد انتخابات 2024 ستكون محط أنظار الجميع، وبالتأكيد سيكون لنتائجها تأثير على سياسات أوروبا بما في ذلك موقفها من الحرب في أوكرانيا على وجه الخصوص، كذلك فيما يتعلق بالحرب في غزة أيضاً.
ويضيف: كل هذه الانتخابات من شأنها أن تقود إلى تغيير مجرى السياسات الدولية ونظرة العالم إلى مستقبله السياسي والاقتصادي.. هنالك عديد من الدول التي يتقدم فيها اليمين المتطرف في الانتخابات، ويأخذ دوره في التصاعد.. وإذا ما تعزز دور تلك الأحزاب في الحكم فسيكون لها حتماً تأثير مغاير فيما يخص القضايا المطروحة.
وفي السياق، فيما يتعلق بالانتخابات في الولايات المتحدة، يشير رئيس مركز بروجن في معرض حديثه مع «البيان» إلى أنه إذا جاء رئيس غير بايدن في المرحلة المقبلة –خاصة إذا كان ترامب أو أي من أنصار السياسة الترامبية- فسيكون الوضع مختلفاً تماماً على صُعد عدة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا والعلاقات مع الصين وروسيا وإيران (ومنطقة الشرق الأوسط عموماً)، مشيراً إلى تراجع شعبية بايدن بشكل واسع مع ارتفاع نسب التأييد لسياسات ترامب، المرتبطة بـالعودة إلى الداخل الأمريكي وعدم الانتشار في الخارج (لأن ذلك يتسبب في تكلفة واسعة على عاتق واشنطن، وبالتالي فإن هذا (فوز ترامب) إن حدث، سيعني أن العالم سيكون أمام متغير جذري. كذلك في الصين، فثمة متغيرات محتملة فيما لو كان الموقف الأمريكي مختلف أو الرئاسة مختلفة عما هي عليه الآن.
الانتخابات الروسية.. والحرب في أوكرانيا
فيما يخص الحالة الروسية، يشير الأكاديمي والباحث السياسي، رامي القليوبي، من موسكو، في تصريحات خاصة لـ «البيان» إلى أنه «لابد من التفرقة بين الانتخابات في روسيا والحرب في أوكرانيا.. فيما يخص الانتخابات فإن شرعية السلطة تستند إلى نوعٍ من العقد الاجتماعي القائم، والذي توفر الدولة بموجبه قدراً من الرخاء والأمان للمواطنين مقابل عدم مشاركتهم في الحياة السياسية.. ولقد استطاعت السلطة الوفاء بهذا العقد عن طريق تجنيب أي انهيار اقتصادي، وتجنيب أية تعبئة عسكرية جديدة كانت ستؤدي إلى أزمة في العلاقة بين المجتمع والسلطة».
ويتابع: «لذلك ستستمر الحرب في أوكرانيا وفق الخطة المقررة؛ خاصة أن السلطات تمكنت من تجنيد نحو 500 ألف فرد متعاقد للمشاركة في القتال دون أن يتم تجنيد أحد إجبارياً.. كذلك في هذه السنة تشير التوقعات إلى أن النمو سيسجل 3.5% وهو نمو تعويضي عن خسائر العام الماضي، وهذا يعني أن السلطة الروسية مطمئنة لفوز بوتين بدون أن يتأثر باستمرار الحرب في أوكرانيا».