مجموعة من «الخطوط الحمراء» تفرض نفسها على «ملف تايوان»! ومبدأ «الصين الواحدة»، الذي تتمسك به بكين، يهدد تجاوز أي منها باشتعال صراع لا تتوقف تبعاته عند حدود تايبيه، إنما تجرّ العالم بأسره إلى سيناريوهات ضبابية أكبر في كلفتها من فاتورة حروب حالية وسابقة، من بينها: الحرب في أوكرانيا.
عززت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في تايوان، وفاز فيها لاي تشينغ تي، من الحزب الديمقراطي التقدمي، مخاوف من تغيّر المعادلة ومبارحة سياسة «إبقاء الوضع على ما هو عليه» مكانها، لجهة تصعيد غير محسوب المخاطر، في ظل التوجهات الانفصالية للرئيس الجديد.
بينما بكين من جانبها تُبدي ردة فعل أقل من المتوقع في تقدير محللين، لاسيما في ضوء التوازن الذي يحمله المشهد السياسي في تايوان، مع فقدان حزب الرئيس، الأغلبية في المجلس التشريعي. كما أن الصين لا تزال قادرة على التعامل بمزيد من الحكمة لتجنب أي صدام «صفري» مع الولايات المتحدة، لن يعرف فائزاً، بل يكلف العالم بأسره ضغوطات لا حدود لها.
رغم التوترات التي شهدتها السنوات الماضية حيال ملف «تايوان»، والإجراءات التصعيدية الصينية هناك، لاسيما بعد زيارة رئيس مجلس النواب الأمريكي سابقاً، نانسي بيلوسي، إلى تايبيه، وما أثارته الزيارة من ارتفاع في حدة التوترات حينها، إلا أن الأطراف كافة لا تبدو على استعداد لاختبار خيار التصعيد الصعب، بما في ذلك الولايات المتحدة، المشتتة في جبهات مختلفة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، وغزة، واضطرابات الشرق الأوسط.
في ضوء تلك المعطيات، فإن تصوير اقتراب سيناريو التصعيد مقروناً بنتائج الانتخابات الحالية، قد يحمل بعض المبالغات، لكن ذلك لا يعني أنه سيناريو مستبعد، لارتباطه بشكل أساسي بمجموعة من الخطوط الحمراء -من بينها، على سبيل المثال: اتخاذ تايوان خطوات عملية للانفصال، مثل: تنظيم استفتاء د اخلي- تفجر بدورها ما يصفه محللون بـ«حرب يوم القيامة» لخطورة تداعياتها على العالم.
3 سيناريوهات رئيسة
خبير الشؤون الآسيوية، الدكتور جلال رحيم، يشير إلى خسارة حزب الرئيس التايواني، الأغلبية في المجلس التشريعي، بما سوف يشكل عقبة كبيرة له، فيما يخص تمرير سياساته، خاصة «الدفاعية»، وما يتعلق بالموازنة العسكرية، في مشهد يزاحمه فيه حزب «الكومنتانغ» الذي ربما يقترب من الصين كثيراً في الرؤية الاستراتيجية للعلاقات، بما قد يعيق الرئيس التايواني في فرض أجندته الانفصالية.
ويُحدد رحيم، في حديثه مع «البيان»، سيناريوهات ثلاثة لما بعد الانتخابات التي أسفرت عن فوز لاي تشينغ تي، الذي تصفه الصين بـ«الانفصالي العنيد».
مهادنة استراتيجية
يتعلق السيناريو الأول بمواصلة لاي تشينغ تي سياسة سابقته تساي إنغ ون في تايوان، حيث لم يكن هناك إعلان للاستقلال، وكذلك في الوقت نفسه لم يكن هنالك قبول بالأمر الواقع، فيما سيتواصل الحديث بشأن الدفاع عن «سيادة تايوان»، و«فرض الهوية التايوانية»، في ظل التحوّل الكبير في الرأي العام الداخلي، ونظرة التايوانيين لأنفسهم.
في العام 1992، كانت هناك نسبة ضعيفة لا تتجاوز 18 % من التايوانيين ممن يصفون أنفسهم بـ«التايونايين»، ارتفعت هذه النسبة في 2023، طبقاً لاستطلاعات الجامعة الوطنية «تشياو تونغ» إلى أكثر من 63 %، بما يعكس تنامي الهوية التايوانية بالداخل، والتحول الكبير في المشهد، الأمر الذي قد يشكل حافزاً للرئيس الجديد في سياق فرض أجندته الانفصالية على مستويات مختلفة، لكن ليس بالضرورة الوصول إلى حافة الهاوية.
مناوشات
أما السيناريو الثاني، فيتعلق بفرض الرئيس المنتخب، أجندته، التي تحدث عنها مرات عديدة، عندما تمسك بوصفه تايوان بدولة مستقلة ذات سيادة. وبالتالي، سيسعى -وفق ما يفترضه السيناريو الحالي- إلى المزيد من الاعتراف الدبلوماسي بتايوان، حيث إن عدداً محدوداً من الدول التي تعترف بها.
من شأن هذا السيناريو دفع الصين إلى اتخاذ إجراءات عقابية، من بينها: فرض العقوبات الاقتصادية، التي ستكون مؤثرة بشكل واسع، لاسيما مع اعتماد تايبيه في أكثر من 20 % إلى 30 % من اقتصادها على التبادل مع الصين الشعبية، التي لم تقف صامتة أمام ما تعتبره «استفزازات» من جانب تايوان.
ويفترض السيناريو أن الرئيس لاي تشينغ تي سيحافظ على «خيط رفيع» في السياسة، فهو من ناحية لن يقدم على إجراء استفتاء للانفصال، بينما سيقوم باستفزاز بكين بخطوات ورسائل معينة، بما قد يضطر البلد صاحب ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى خطوات تصعيدية، بدءاً من العقوبات، وإحكام الحصار على تايبيه، وصولاً، ربما، إلى احتلال عدة جزر قريبة من البر الصيني.
طُبول الحرب
أما السيناريو الثالث –وهو الأكثر خطورة- يتعلق بالتصعيد المتبادل، وجرّ المشهد إلى «الحرب». سيكون هذا السيناريو أكثر احتمالاً بشرط وحيد (لا يتعلق بالصين نفسها، أو بتايوان)، وهو أن يعود الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذا السيناريو يسميه الصينيون بـ«سيناريو الكابوس».
«سيناريو الكابوس» هذا، يقصد به وجود شخص، تصفه الصين بـ«انفصالي عنيد» (لاي تشينغ تي)، رئيساً لتايوان، في نفس فترة وجود ترامب –الرجل الذي لا يمكن التكهّن بردات فعله-، رئيساً للولايات المتحدة، بل ربما يكون ضمن فريقه، وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، الذي ينادي بالاعتراف بتايوان (..).
أي تبعات للحرب؟
من المرجّح مع تحقق «سيناريو الكابوس»، أن يشجع لاي تشينغ تي، على اتخاذ خطوات عملية في اتجاه «الاستقلال»، والدفاع عن «سيادة تايوان» -كما يُسمها-. وهنا يحدث التدخل العسكري، الذي لن تواجه فيه الصين تايوان وحدها، إنما ستواجه بقوة عسكرية ضخمة من الولايات المتحدة، واليابان، وأستراليا.
ويقول رحيم، إن ذلك «ليس حباً في تايوان.. إنما لاعتبارات جيوسياسية وعسكرية، فتايوان تمثل حاملة طائرات ثابتة للولايات المتحدة في تلك المنطقة، علاوة على أن تايبيه تسيطر على نحو 70 % من سوق الرقائق الإلكترونية (نفط المستقبل)، التي تمثل مستقبل العالم، وتحدد مصير اتجاه الصين وصعودها خلال الـ50 سنة المقبلة».
في ضوء ذلك، سيكون من الصعوبة بمكان التنبؤ بمصير الحرب، ذلك أنه من غير المحتمل أن يكون هناك فائزين محتملين، فالنتيجة «ستكون كارثية على كل الأطراف»، وستكبد تلك الحرب الاقتصاد العالمي خسائر تصل إلى 10 تريليونات دولار، وهو أكثر بكثير من كلفة جائحة «كورونا»، والحرب في أوكرانيا،.. ستكون «حرب يوم القيامة» كما يصفها الخبير في الشؤون الآسيوية.
بينما من غير المتوقع أن يتخذ الرئيس التايواني المُنتخب إجراءات مفصلية، أو خطوات استفزازية للصين، منذ توليه، في مايو المقبل وحتى نوفمبر (موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة)، حتى تتضح الرؤية بالنسبة لنتيجة الانتخابات، كما أنه سيكون منشغلاً بالأوضاع الداخلية، ومع تأكيده الانفتاح على جميع الأحزاب.
«إذا ما فاز ترامب، ستكون 2025 سنة صعبة على الصين، ومنطقة شمال شرق آسيا، ومضيق تايوان.. وبالتالي، ستكون صعبة جداً على الاقتصاد العالمي».
خطوط حمراء
تدرك جميع الأطراف خطورة «حرب يوم القيامة» التي يفترضها السيناريو الثالث، وتُمسك من جانبها بسياسة الصبر الاستراتيجي في العلاقات، دونما تخطي الخطوط الحمراء التي قد تفجر بركاناً لن يتوقف مداه التدميري عند حد مضيق تايوان، بل ستجر العالم لوضعٍ أسوأ، مُهددة بهذه الفاتورة الباهظة من الخسائر على شتى الصعد. بالتالي، يميل محللون إلى ترجيح كفة «السيناريو الأول»، المرتبط ببقاء الوضع على ما كان عليه إبّان فترة تساي إنغ ون، لجهة الإمساك بالعصا من المنتصف، دون التهور بتخطي تلك الخطوط المشتعلة.
من هونغ كونغ، يصرح الخبير المتخصص في الشؤون الصينية، أنجيلو جوليانو، لـ«البيان»: «أعتقد بأن الوضع الراهن من المرشح أن يستمر في تايوان، حيث إن فوز الحزب الديمقراطي التقدمي يعدّ فوزاً جزئياً، كونه فقد الأغلبية في «اليوان» التشريعي (الهيئة التشريعية في تايوان)، وسيتعين عليه تقديم تنازلات مع الأحزاب الأخرى».
فيما سيواصل الحزب الديمقراطي التقدمي، المدعوم من الولايات المتحدة، استفزاز الخطوط الحمراء للصين، تبعاً لجوليانو، الذي يؤكد أن «الغالبية العظمى من سكان تايوان تريد الحفاظ على الوضع الراهن»، محدداً من جانبه ثلاثة خطوط حمراء، يؤدي تجاوزها إلى اشتعال الحرب، هي: تمركّز قوات عسكرية أمريكية كبيرة في تايوان، وإعلان الاستقلال، والصواريخ النووية الأمريكية في تايوان.
بينما في الوقت الحالي، فإن الولايات المتحدة مشتتة للغاية بين الشرق الأوسط، وأوكرانيا، ولا يمكنها تحمّل تكاليف فتح جبهة قتالية ثالثة.
ويضيف المحلل المتخصص في الشؤون الصينية: «أرى خطراً أكبر مع الفلبين في الوقت الراهن، تمثّله الاحتكاكات في بحر الصين الجنوبي»، موضحاً أن السيناريوهات الثلاثة المذكورة، التي تقود إلى الحرب «لن تكون ممكنة إلا إذا كان هناك «انقلاب ناعم»، ونوع من الأحكام العرفية، لكن ليس في ظل الوضع الطبيعي».
بخلاف ذلك، يعتقد جوليانو بأن هناك الكثير من المبالغات في تصوير اقتراب سيناريو الحرب، مبيّناً أن «تايوان جزء من الصين دستورياً.. يكاد يكون من المستحيل إعلان الاستقلال، ذلك أنهم سيحتاجون إلى 3/4 من الأصوات بـ«اليوان» التشريعي، ثم إجراء استفتاء».
وكان تحليل لشبكة «بلومبيرغ»، قدّر كلفة سيناريو الحرب على الاقتصاد العالمي بحوالي 10 تريليونات دولار، ليفقد حوالي 10.3 % من الناتج، مفنداً تأثيراتها المحتملة على كل من تايوان، والصين، والولايات المتحدة، على حدة.
ومن شأن الحرب –بحسب تحليل «بلومبيرغ»- أن تضرب 40 % من الناتج المحلي لتايوان، و16.7 % من الناتج المحلي في الصين، بخلاف نحو 6.7 % انخفاضاً محتملاً في الناتج المحلي بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة مع اعتماد شركات التكنولوجيا العملاقة على سلسلة توريد الإلكترونيات الآسيوية.
سيناريو قاتم
مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، رئيس منتدى «تطوير الفكر العربي» للأبحاث، أبو بكر الديب، يقول لـ«البيان»: إن سيناريو تفاقم الصراع إلى مواجهة عسكرية هو «سيناريو قاتم للغاية»، لا تزال كل الأطراف تتجنبه حتى الآن، فالصين تعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ منها، وتسعى بكل الطرق الدبلوماسية، بعيداً عن الطرق العسكرية، وإن كانت تُبقي ذلك الطرح على الطاولة، لكنها تدرك مآلات هذا الخيار الصعب، ومن ثم تتعامل معه بـ«حكمة شديدة».
تُدرك بكين خطورة الدخول في صدام مباشر مع واشنطن أو غيرها. لكنها في الوقت ذاته، تتمسك بمبدأ «الصين الواحدة»، وهو مبدأ تعترف به الولايات المتحدة، والغرب، لكن أمريكا «تُبقي الملفات مفتوحة»، كسبيل للمحافظة على هيمنتها في العالم.
ويضيف الديب: «السنوات الماضية شهدت تصاعداً للتوترات الجيوسياسية، والاقتصادية، بين الصين والولايات المتحدة. لكن في الأشهر القريبة، تم التقارب بشكل نسبي في ظل اللقاءات الدبلوماسية التي جمعت مسؤولي البلدين، وكذلك القمة الأخيرة بين الرئيس الصيني، شي جين بينغ، ونظيره الأمريكي، جو بايدن، منوّهاً بانشغال الولايات المتحدة بملفات الشرق الأوسط (بما لا يجعل من مصلحتها فتح جبهة قتالية جديدة في مكان آخر).
ويتابع: «العالم لا يحتمل صراعاً كبيراً كهذا (..)، يهدد ذلك الصراع بفاتورة باهظة يدفعها الاقتصاد العالمي (..)، أي صراع سيحدث زلزالاً اقتصادياً شديداً حول العالم، لاسيما أنه يعني انخراط أكبر اقتصاديين في هذا الصراع، وهو أمر غير متوقع على الأقل حتى العام 2027».