«عليك أن تكون قوياً في ملعبك».. هكذا وصفت رئيس البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، علاج الأزمات التي تجابه القارة العجوز، عندما تحدثت خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس قبل أيام عمّا قد تشكله عودة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة، من تأثيرات محتملة على أوروبا.
«أن تكون قوياً: يعني أن تكون لديك سوق عميقة.. وأن تستثمر المزيد في أسواق المال».. من هذا المنطلق ترى لاغارد أن الحلول الأساسية للأزمات التي تواجهها دول التكتل مفتاح حلها الأساسي يكمن داخل البلدان الأوروبية التي عليها أن تعمل على «تحسين الاكتفاء الذاتي»، طبقاً لما ذكره وزير المالية الألماني، كريستيان ليندر، الذي اتفق مع ما ذهبت إليه رئيسة «المركزي الأوروبي»، باعتبار أن تقوية السوق المحلية، وجعلها تنافسية بشكل أوسع، من شأنه أن يحسن العلاقات عبر الأطلسي.
وزادت على ذلك بقولها: «نكون شريكاً جذاباً على مستوى النظر عندما يتعلق الأمر بالوضع الاقتصادي! وعندما يتعلق الأمر بالتقاسم العادل للأعباء تحت سقف حلف شمال الأطلسي «الناتو»، فهذا أفضل ما يمكننا القيام به لنكون في شراكة جيدة مع الولايات المتحدة».
ترزح أوروبا تحت وطأة إشكالات رئيسة، في صدارتها «التبعية» للولايات المتحدة على صُعُد عدّة، واعتمادها في سلاسل التوريد، على مصادر خارج التكتل، ما يجعلها «هشّة» أمام الصدمات الخارجية المتكررة، كالحرب الروسية الأوكرانية، وتبعاتها، فما بعد 24 فبراير 2022، ليس كما كان قبله، وصولاً إلى الاضطرابات في البحر الأحمر، وما تثيره من ضغوط محتملة.
طرحت «المفوضية الأوروبية» أدوات جديدة، لتعزيز الأمن الاقتصادي الأوروبي، ويعتقد مراقبون بأنها مهمة ليست في متناول أوروبا، لارتباطها بجملة إجراءات تحفيزية، وضوابط مرتبطة بالاستثمارات الخارجية، ومحددات تعزيز المنافسة مع روسيا، والصين، والولايات المتحدة، وبالسياق العام للسياسات الرئيسة، الحاكمة للعلاقات الاقتصادية الأوروبية، وارتهانها لـ«القرار الأمريكي».
في وضع دولي جديد، تتسارع فيه وتيرة إعادة تشكيل، وصياغة، خرائط العلاقات الإقليمية، والدولية، تبدو الحاجة ملحة لأوروبا إلى إعادة النظر في ملفات أساسية، ومعايير حاكمة لطبيعة علاقاتها، ومعايير «المنافسة الإيجابية» في مواجهة الدعم الأمريكي، الضخم، لقطاعات رئيسة، كالمشروعات الخضراء، والتكنولوجيا.
وتواجه أوروبا تحديات عديدة، كعلاقتها مع الولايات المتحدة، التي تبنت سياسات هزّت «تنافسية أوروبا»، فضلاً عن تنافسيتها مع روسيا والصين، وتكتلات اقتصادية صاعدة بقوة، كـ«بريكس».
حزم تنافسية
يصرح رئيس وحدة العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في مركز «جنيف» للسياسات الدبلوماسية، ناصر زهير، لـ«البيان»، أن الاستراتيجية الأوروبية، لتعزيز الأمن الاقتصادي، خطوة إيجابية، لكنها ليست ناجعة بالحد الكافي، لمواجهة الصين وأمريكا، وإن كانت قادرة على مواجهة روسيا.
ويضيف: «أضرت حزم التحفيز الاقتصادي، لإدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالشركات الأوروبية، بينما كل ما فعلته أوروبا، هو: الاعتراض على الحزم، دون تقديمها حزماً تحفيزية منافسة». كذلك جرى أمر مشابه مع الصين، فبعدما اشترت الصين، شركات أوروبية كبيرة، تعثّرت بفعل جائحة «كورونا»، اكتفت أوروبا بتقييد وصول، وتضييق امتلاك المستثمرين الصينيين للشركات الأوروبية، وإخضاعها لمراجعات سلطاتها.
ويتابع زهير: «بكين، وواشنطن، تتخذان إجراءات واسعة، لدعم الاقتصادات المحلية، والشركات، وحزم التحفيز المختلفة. إلا أن أوروبا لا يمكنها ذلك إلا بتغيير سياساتها الاقتصادية، وهو ما طالب به المستشار الألماني، أولاف شولتس، بآلية تصويت أوروبية بالأغلبية لا بالإجماع».
وقد طرحت «المفوضية الأوروبية»، أخيراً، عدة مقترحات، لتعزيز الأمن الاقتصادي الأوروبي، وسط توترات جيوسياسية متزايدة، وتحولات تكنولوجية عميقة.
وتقول: «نريد أن نضمن أن يظل «الاتحاد الأوروبي» من أكثر الوجهات انفتاحاً وجاذبية للأعمال والاستثمار. تم تحديد تدابير جديدة في مجالات التجارة والبحث».
تضمنت التدابير المرتبطة بالتجارة: «تحسين فحص الاستثمارات الأجنبية، لمنع الاستثمارات الضارة بأمن التكتل (بالتحقق من أن جميع الدول الأعضاء لديها آلية فحص، مع قواعد وطنية أكثر انسجاماً، مع توسيع نطاق الاستثمارات التي ينبغي فحصها).
يضاف إلى التدابير، اتباع نهج أكثر تنسيقاً تجاه الصادرات الأوروبية للسلع ذات الاستخدام المزدوج (التي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية، مثل: الإلكترونيات المتقدمة)، لضمان عدم وقوعها في الأيدي الخطأ. مع فهم المخاطر المحتملة ببعض الاستثمارات الأوروبية في الخارج (كيفية استخدام التقنيات المتقدمة، لتعزيز القدرات العسكرية للجهات الفاعلة التي تستخدمها ضد التكتل).
وتدرس «المفوضية الأوروبية»، طرقاً، لدعم البحث وتطوير التقنيات، وكيفية تعزيز أمن البحث في جميع أنحاء القارة. وأرست الحزمة الاستراتيجية لأمن الاقتصاد الأوروبي، اعتباراً من يونيو 2023، الأساس في تطوير نهج شامل، لحماية الأمن الاقتصادي للتكتل.
تشريعات
من لندن، يقول المحلل والخبير الاقتصادي، نهاد إسماعيل، لـ«البيان»، إن مسألة الأمن الاقتصادي تشكل مصدر قلق أوروبي كبير، إذ تسعى «المفوضية الأوروبية» لسنّ تشريعات «ذات مخالب قانونية»، لإلزام دول التكتل بالتطبيق الفعلي للمقترحات، لاسيما بعد تغيّر العالم، في أعقاب «كورونا»، و«الحرب الأوكرانية»، وتنامي أهمية «سلع حسّاسة»، كأشباه الموصلات، وتكنولوجيا الحرب السيبرانية، والهجمات ضد البنية التحتية، واستخدام الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية.
كل ذلك غيّب الأمن، بشقيه: الاقتصادي، والجيوسياسي. من هذا المنطلق، وضعت أوروبا مقترحات، وخطوات، تلزم دولها بالتطبيق، والتنسيق في ما بينها. ويضيف إسماعيل: «أهم الخطوات: زيادة الرقابة على الاستيراد والتصدير، وتقليل الاعتماد على روسيا والصين، وتوسيع التعاون مع شركاء موثوقين وحلفاء مقربين، والتحكم، وتشديد دراسة الاستثمارات الأجنبية، وأهدافها، ومجالاتها، وتشديد الرقابة على تصدير السلع ذات الاستعمال المزدوج: كالصلب عالي الجودة، واليورانيوم، والأسمدة، التي يمكن تحويلها لمواد متفجرة. ومن المقترحات، رفع الاستثمار في البحث والتطوير، لمكافحة التجسّس الصناعي، ومنع تسريب التكنولوجيا لدول غير موثوقة».
لكن، ثمّة جملة تحديات تواجه تلك الإجراءات، بحسب إسماعيل، جعلت الأخير يتساءل: هل ستلتزم الدول الأعضاء بالمعايير القاسية الجديدة بنفس درجة الحذر والتشدد؟ وهل ستكون هناك ثغرات توصل التكنولوجيا الحديثة إلى روسيا وللصين؟ وماذا عن النشاطات التجسّسية والسيبرانية؟
التحدي الكبير هو التطبيق الدقيق.. ولكي تكون أوروبا قوة ذات وزن اقتصادي ثقيل، ومؤثر، يتعين أن تعمل ككتلة متماسكة، لتنافس الصين والولايات المتحدة، وتعزز أمنها الاقتصادي.
واحدة من أبرز المعضلات الأوروبية، راهناً، هي تصاعد الضغوط الاقتصادية منذ «الحرب الأوكرانية»، وتهديد شبح الركود كبرى الاقتصادات الأوروبية، والضغوط التضخمية (قفز في منطقة اليورو خلال ديسمبر 2023 إلى 2.9 %)، في وقت تواجه سلاسل الإمداد حالة عدم اليقين وسط تنامي الضغوط، جميعها عوامل مشتركة ترسّخ «تبعية» بروكسل لواشنطن، كما حدث بشكل واضح في ملف الطاقة، بينما اضطرت العواصم الأوروبية للاعتماد، بنسبة كبيرة، على الغاز الطبيعي المسال، الوارد من الولايات المتحدة بكلفة أعلى، بعدما سعت لـ«فطام» نفسها عن الغاز الروسي.
ترسيخ تلك الاعتمادية واعتبارها مساحة الأمان الأوروبية، يُهدد بفقدان أوروبا مكانتها الاقتصادية الدولية، لصالح الأطراف المتنافسة، بينها: بلدان نامية نجحت في تحقيق قفزات واسعة، ولا سيما في قطاعات أساسية، مثل: التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي.
يعكس المثال المتداول في الأوساط الأوروبية.. (أمريكا تبتكر، الصين تُقلّد، أوروبا تُشرّع وتضع الضوابط).. طبيعة التموضع الأوروبي في عالم الابتكار، والصناعة، والتكنولوجيا، وهو أمر يمكن تطبيقه، بشكل متفاوت، على ملفات كثيرة، تقف فيها القارة العجوز بعيداً عن معترك المنافسة الحقيقية، وتفقد، تدريجياً، كثيراً من حضورها المؤثر.
معضلة رئيسية
من برلين، يصرح مؤسس مركز «بروجن» للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، رضوان قاسم، لـ«البيان»، أن مهمة تعزيز الوضع الاقتصادي في أوروبا تشوبها كثير من المعوقات، ولا سيما في ظل الوضع الجيوسياسي الراهن، ويقول: «لا أعتقد بأنه، من السهولة بمكان، أن تذهب دول «الاتحاد الأوروبي» لإيجاد حلول دون إعادة النظر في سياساتها التي تتبعها، أكان في علاقاتها مع روسيا والصين، وكذلك فيما يخص علاقة «التبعية» السياسية للولايات المتحدة، إلى جانب كثير من الملفات التي تعيق تطلعاتها».
ويشرح قاسم عدداً من تلك الملفات، التي يتعين على أوروبا - في تقديره - إعادة النظر فيها، بينها: الملف المرتبط بروسيا، وفيما يخص «إيهام الشعب الأوروبي بأن روسيا ستجتاح أوروبا» بما يعزز الموقف العسكري أكثر منه السياسي، والاقتصادي، لجهة ذهاب ميزانيات أوسع لاعتبارات الأمن والدفاع، رغم الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها أوروبا، إذ تقف عديد من دولها على شفا ركود اقتصادي، علاوة على تفاقم معدلات التضخم، وارتفاع تكلفة المعيشة.
ويضيف: «فيما يخص الموقف الأوروبي من روسيا، تكمن المعضلة الرئيسة في قطاع الطاقة، إذ كان الغاز الروسي يتدفق إلى أوروبا، بشكل أسرع، وأسعار أرخص، مما هو عليه اليوم، بينما تصل النسبة الأكبر من الولايات المتحدة، بأسعار مضاعفة (في إشارة إلى أن أمريكا هي المستفيد من تصعيد الحرب، وتعقيد المواقف الأوروبية مع روسيا)، وهذا يضعف الاقتصاد الأوروبي من خلال إلقاء المزيد من الأعباء عليه».
ملف آخر يتعين على أوروبا إعادة النظر في سياساتها تجاهه، وهو الملف المرتبط بالمنافسة مع الولايات المتحدة، ويستدل قاسم على ذلك بهجرة عديد من الاستثمارات الأوروبية إلى الولايات المتحدة، استجابة للإغراءات، والتحفيزات الأمريكية لها. علاوة على الملف المتعلق بالصين، في ظل الضغوط التي تمارس من قبل الولايات المتحدة على أوروبا، فيما يخص التبادل التجاري مع الصين، ما عرقل كثيراً من الفرص، وأسهم في توتر العلاقات بين الصين ودول أوروبية في عديد من الملفات الاقتصادية.
كل هذه الملفات، في تصور مؤسس مركز «بروجن» للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، تظل عقبة أمام الاقتصاد الأوروبي، إذا ما تم النظر أيضاً إلى نشاط تكتلات اقتصادية كبرى اليوم، مثل: «بريكس»، وشنغهاي.