لكل سلف خلف يأتي من بعده ليحيله دفتراً للذكريات على رف في مكتبة التاريخ.
هكذا علمتنا سياسة تعاقب فصول الدول، وهكذا مضت سنة الكثير من القادة في العالم، الذين إما مضى بعضهم إلى ماضٍ طويت صفحته وصار نسياً منسياً، وإما بقي بعضهم يسجلون حضورهم في كتب التاريخ أو على لوحات أسماء الأماكن لفعل تميزوا به أو إنجاز حققوه، ولكنهم أصبحوا ماضياً لا وجود لهم في حركة الحياة وتقلبات الحاضر.
في الإمارات ومع الشيخ زايد، رحمه الله، يتجاوز الأمر حدود معنى تعاقب الأيام وتغير الشخوص.
فالراحل لم يكن رئيساً أو حتى زعيماً حقق إنجازات وصنع مكاسب ثم انزوى في صفحة طويت تروي ذكريات وحكايات.
هذا جزء من المشهد العام لشخصية زايد الفذة. ولكن عموم المشهد يتجاوز الإنجاز الوقتي إلى الحضور المستدام.
وأقوى علامات هذا الحضور هو الصناعة الحقيقية بمعناها الشامل في المقاربة المادية لمعنى الصناعة.
تكوين الدولة، تأصيل شخصيتها، توحيد رؤيتها، دمج مكوناتها الحاكمة والشعبية، بناء مؤسساتها، بناء مصادر قوتها، توزيع ثروتها، ابتكار صورة ذهنية ميزتها في محيطها، اختزال مراحل زمن تطورها وتقدمها، إحداث ثورات تعليمية ونهضوية على كل الصعد.
وباختصار، وضع كل أركان الدولة الاتحادية وبناء قواعدها وتعبيد أرضيتها ثم تشييد بنائها وتعزيز قوتها لتكون قاعدة انطلاق راسخة للقادم من الأجيال.
هذا الطراز من «الرجل الأمّة» الذي يسجل حضوره في كل تفاصيل المشهد الوطني والعربي والإسلامي، وكذلك العالمي كلما ذكرت دولة الإمارات، وكلما حقق الإنسان على أرض الإمارات مكسباً أو إنجازاً، وكلما امتدت للإمارات يد إحسان وخير في أدنى الأرض أو أقصاها، وكلما طاب للمجالس أو المنتديات الإقليمية والعالمية ذكراً للإماراتي.
صورة زايد هي الحاضر المتصدر إلى جانب صور القادة الذين تربوا في حجره، وتعلموا في مدرسته، ونهلوا من خلقه وحكمته، وتطبعوا بكريم طباعه وقوة بأسه وحيوية حركته.
لذلك يبقى الشيخ زايد، رحمه الله، حاضراً، ليس في القلوب وأحاديث الذكريات فقط، وإنما في حركة الحياة الدؤوبة في كل ركن من أركان البيت الإماراتي والخليجي والمحيط العربي.
وتبقى آثار مواقفه تشرح دروس حكمته، ويظل هو الأب الذي صار كل من يولد على هذه الأرض هم «عيال زايد» وإن لم يروه. فزايد في كل عام، بل كل الأيام.