تحل اليوم الذكرى الخامسة لرحيل آخر مؤسسي دولة الاتحاد المغفور له الشيخ صقر بن محمد القاسمي التي تصادف 27 من شهر أكتوبر كل عام.
وكان الشيخ صقر بن محمد القاسمي، رحمه الله، مساهماً رئيساً في بناء دولة الاتحاد، جنباً إلى جنب مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانهما من شيوخ الإمارات المؤسسين الذين عملوا على تعزيزها ودعم مؤسساتها وتقوية أركانها، إيماناً بقيمة الاتحاد وأهميته، وبالوحدة الطبيعية والاجتماعية والنفسية والوطنية والتاريخية التي تجمع أبناء الإمارات كافة.
قبل الاتحاد
وكان الشيخ صقر بن محمد القاسمي، رحمه الله، قد انتُخب، عام 1965 قبل قيام الاتحاد بست سنوات، رئيساً لمجلس الحكام الذي ضم إمارات الساحل وفق التسمية المتداولة حينها، وحقق خلال فترة ترؤسه المجلس إنجازات اقتصادية واجتماعية، وظل في منصبه حتى قيام الاتحاد مطلع السبعينيات من القرن الماضي، برئاسة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وقد انضمت إمارة رأس الخيمة إلى الاتحاد خلال شهر فبراير عام 1972، ليصبح الشيخ صقر بن محمد القاسمي عضواً في المجلس الأعلى للاتحاد.
رعاية أبوية
وتمتع الشيخ صقر برعاية أبوية خاصة، أساسها التعلم وأخذ المعرفة بأمور الدين والدنيا، فقد نشأ بين أشقائه وزملائه، ينهل في دراسته معاني القرآن الكريم وحفظ آياته، وتعلم القراءة والكتابة على يد ما كان يسمى في ذلك الوقت المطاوعة، حيث درس الشيخ صقر في طفولته على يد المطوعة الفاضلة السيدة فاطمة، زوجة حمد الرجباني المعروف باسم المغربي.
وتلقى في تعليمه الأولي حفظ آيات من القرآن الكريم والحساب ومبادئ القراءة والكتابة، وكان عمره حينئذٍ لا يتجاوز 10 سنوات، ثم درس فيما بعد على يد معلمين متخصصين، أحضرهم الحاكم في تلك الفترة خصوصاً من نجد، لتدريس أفراد العائلة الحاكمة في بيت الحاكم، ثم تلقى دراسة العلوم الدينية والعربية على يد الشيخ سيد الهاشمي في بيت فضيلة الشيخ علي بن محمد المحمود، وكانت الدراسة فيها شبه نظامية.
وعكف الشيخ صقر بن محمد القاسمي منذ توليه الحكم في إمارة رأس الخيمة - الذي يصادف يوم الاثنين الموافق التاسع من فبراير عام 1948 - على إرساء قواعد الوحدة الوطنية بين القبائل في الإمارة وجمع شملها، والتأليف بينها وجعلها وحدة متماسكة، إضافة إلى رفع شأن إمارته وتقدمها في شتى المجالات الافتصادية والاجتماعية، فحققت رأس الخيمة بجهوده المتواصلة - رحمه الله - تقدماً كبيراً في ركب العلم والتقدم.
صفات حميدة
واتسم الشيخ صقر بصفات حميدة، عكست شخصيته حاكماً وإنساناً، من أبرزها محبته للعلم والدين، وحثه المستمر لأبناء الإمارات والأهالي جميعاً على التمسك بقيم الإسلام الحنيف، وتشجيعه المتواصل على التعليم، إلى حد صبغ شخصيته القيادية والإنسانية والاجتماعية، وفرض طابعه على مراحل واسعة من حياته وسيرة حكمه.
وواظب - رحمه الله - على الحضور في الديوان الأميري في رأس الخيمة لتلبية احتياجات الناس وخدمتهم، وكان يقف أمام الحصن مقر الحكم ومقر إقامته الأول، ثم في قصره لاحقاً، ليستمع إلى كل من يسأله حاجة من بعد صلاة العصر، وصولاً إلى أذان العشاء، بحسب ما يروي أبناء رأس الخيمة من كبار ومقربين، وكان بعض الناس يحدثه عن حاجته داخل المسجد.
مجلس مفتوح
وامتاز الشيخ صقر القاسمي بسياسته الحكيمة وبعد رؤيته وتطلعه الدائم إلى المستقبل بتفاؤل وأمل، حيث استقطبت الإمارة العديد من الصناعات الناجحة التي أسهمت في دفع عجلة التقدم، ومنها صناعة الأسمنت والأدوية والسيراميك والحديد، وغيرها من المصانع والشركات.
التعليم والبناء
ووجه الشيخ صقر بن محمد القاسمي جل اهتمامه إلى نشر العلم والمعرفة في المجتمع، إيماناً منه بدور التعليم في بناء الإنسان والمجتمع، وتكوين الوعي الثقافي للدول، وفي هذا الصدد كان يقول، رحمه الله: «للتعليم فوائد جمة في حياة الإنسان وسعادته، فعن طريق القراءة والكتابة يعرف الإنسان أصول دينه، ويصبح الإنسان مستنيراً ومثقفاً وواعياً ومدركاً».
وأدرك الشيخ صقر القاسمي، خلال السنوات الأولى لحكمه، أهمية التعليم والمعرفة في تكوين الوعي الحضاري وبناء شخصية الإنسان والمجتمع، وفي تحديد مسار حياة الفرد العملية والاجتماعية، فقد أمر - رحمه الله - في سبيل نشر التعليم، بإنشاء دائرة للمعارف، لمتابعة شؤون البعثات العلمية في الإمارة، وذلل العقبات أمام الوفود التعليمية التي أرسلتها الدول الشقيقة، من أجل نشر العلم وافتتاح مدارس نظامية على أرض رأس الخيمة، وكان يشجع الطلاب وأولياء الأمور ويحثهم على تعليم أبنائهم.
10 مدارس
واتخذ الشيخ صقر بن محمد القاسمي منهجاً تربوياً إلى جانب التعليم، فقد افتتح عدداً من المدارس، وأولى التعليم جل اهتمامه، وكان يكرم المدرسين الذين قدموا إلى رأس الخيمة في فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وقدم لهم كل التسهيلات التي تعينهم على إكمال مهامهم في تعليم أبناء المنطقة، فأصبح في رأس الخيمة 10 مدارس في عام 1960، خمس منها للبنين وخمس للبنات. وعمل - رحمه الله- على إنشاء المدرسة الزراعية في الدقداقة في عام 1955، ثم أنشأ المدرسة الصناعية عام 1969.
تحفيظ القرآن
ولم يقتصر اهتمامه على التعليم العام، بل تركز أيضاً على تحفيظ القرآن الكريم للطلاب والطالبات على حد سواء، لأنه كان يردد دائماً أن دراسة القرآن الكريم وعلومه فيها إرشاد وتهذيب وتقويم للنفس والسلوك والعمل، إلى جانب اهتمامه بتوفير رعاية صحية شاملة لأبناء رأس الخيمة، حيث افتتح المستشفى الكويتي، وفي عهده تم إنشاء ثلاثة مستشفيات عصرية في الإمارة، وفي عهد الدولة الاتحادية انطلقت عمليات البناء والتطوير في رأس الخيمة.
وقد انتُخب الشيخ صقر القاسمي عام 1965 رئيساً لمجلس الحكام قبل قيام اتحاد دولة الإمارات وضم إمارات الساحل، واستطاع خلال ترؤسه المجلس تحقيق الكثير من المنجزات، وظل في هذا المنصب إلى قيام الاتحاد. وعمل إلى جانب إخوانه حكام الإمارات على إقامة اتحاد متماسك ومترابط يجمع شمل الإمارات في دولة واحدة، تزيل الحواجز بين أبناء المنطقة الواحدة، وعلى الرغم من الصعوبات الجمة التي واجهت قيام الاتحاد، فإن الإرادة الوحدوية الصلبة للمؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وإخوانه حكام الإمارات تمكنت من تخطي كل العقبات، وتحقيق الأمنية الغالية لشعب الإمارات، حيث شهد يوم الثاني من ديسمبر 1971 ميلاد دولة حديثة، أصبحت يوم إعلانها الدولة الـ18 في جامعة الدول العربية، والعضو 132 في الأمم المتحدة.
جذور القرابة أثمرت شجرة الاتحاد
كان اتحاد إماراتنا ثمرة جهود دؤوبة قام بها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وإخوانه حكام الإمارات المؤسسون، رحمهم الله، فالجميع كان مؤمناً بمقولة الشيخ زايد: «إن تجربتنا الاتحادية كانت نابعة في المقام الأول من الرغبة في زيادة أواصر القربى، ومن قناعة الجميع بأنهم أهل ولا بد أن يجتمعوا تحت قيادة واحدة، فنحن لم يسبق لنا تجارب اتحادية، ولكن قربنا من بعضنا وصلة الرحم بيننا هما اللذان جعلانا نؤمن بضرورة قيام اتحاد بيننا، يكون عوضاً عن التفتت والتمزق اللذين كانا سائدين بيننا، ولأننا آمنا منذ اللحظة الأولى بأهمية نجاح هذا الاتحاد، فإننا نشعر الآن بأن أملنا قد تحقق، وأصبح للاتحاد كيانه وسمعته الممتازة في الداخل والخارج، واحتل المكانة العالمية التي تليق به في مصاف الدول».
ويكمل المسيرة المباركة بعد ذلك صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وإخوانه أصحاب السمو حكام الإمارات، ويستمر الإنجاز والبناء والتمكين التي حققت فيه الإمارات إنجازات عديدة على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
ومبكراً، امتاز الشيخ صقر القاسمي بسياسته الحكيمة وبعد رؤيته وتطلعه الدائم إلى المستقبل بتفاؤل وأمل، حيث استقطبت الإمارة العديد من الصناعات الناجحة التي أسهمت في دفع عجلة التقدم، ومنها صناعة الأسمنت والأدوية والسيراميك والحديد، وغيرها من المصانع والشركات.
وقد توالت نهضة رأس الخيمة العمرانية والاقتصادية بتوجيه وإشراف مباشر منه، حيث تم افتتاح المشاريع الكبيرة، ومنها مطار رأس الخيمة الدولي، وميناء صقر، وبذلك حققت إمارة رأس الخيمة خلال سنوات قلائل في عهده منجزات كبيرة، وشهدت تحولات جذرية على طريق التقدم والازدهار، انطلقت من وضع خطط حديثة لتطوير المدينة على أسس عصرية، بإقامة العديد من المرافق الحيوية في الإمارة.
إنجازات شاملة
وحققت الإمارة إنجازات حضارية شاملة في جميع الميادين بالجهود المخلصة للشيخ صقر بن محمد القاسمي، وتوجيهاته السديدة بتسخير كل الإمكانات المادية لبناء الوطن وخدمة المواطنين، ومنحهم أراضي سكنية وزراعية وتجارية من دون مقابل، كما أسهم في مساعدة ذوي الدخل المحدود على بناء منازل لأسرهم. وفي عهد الدولة الاتحادية، انطلقت عمليات التطوير والبناء في رأس الخيمة، بإرساء قواعد الإدارة الحكومية السليمة، وبناء المؤسسات التنظيمية والمالية والإدارية، والمرافق والدوائر الحكومية التي تتولى الإشراف على تنفيذ مشاريع التنمية.
مجلس مفتوح
وحرص الشيخ صقر بن محمد القاسمي على الالتقاء بالمواطنين من خلال مجلسه المفتوح دائماً أو على الطبيعة، وتفقد احتياجاتهم والاطمئنان إلى أحوالهم، والاستماع إلى مطالبهم واحتياجاتهم من مشاريع الخدمات بمناطقهم، وكرس كل جهوده منذ أن تولى مقاليد الحكم لخدمة المواطنين، وتحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم في حياة كريمة، يسودها الاستقرار والأمان والرفاهية، وبناء دولة حديثة أراد لها بناتها أن تكون قوية وتبقى كذلك، بفضل جهود الخلف. رحم الله الشيخ صقر بن محمد القاسمي، وأسكنه فسيح جناته.
نسب
ينتمي المغفور له الشيخ صقر بن محمد القاسمي في نسبه إلى الشيخ رحمة بن مطر بن كايد، مؤسس دولة القواسم في المنطقة سنة 1760 ميلادية عقب انهيار دولة اليعاربة، ويعود تسلسل نسبه كما يلي: صقر بن محمد بن سالم بن سلطان بن صقر بن راشد بن رحمة بن مطر بن كايد، وهو الجد الأكبر للقواسم. ولد رحمه الله عام 1918 في رأس الخيمة، ونشأ نشأة إسلامية عربية في كنف والده الشيخ محمد بن سالم بن سلطان القاسمي الذي كان حاكماً للإمارة بين عامي 1917 - 1919، واتصف بالهدوء والحلم وقوة الإرادة والشجاعة في إبداء الرأي، وعُرف عنه اعتزازه الشديد بتاريخ أجداده الذين بنوا أكبر قوة بحرية عربية في المنطقة، وعرف عنه أيضاً الولاء لأمته العربية، ونصرته لقضايا الحق والعدل والسلام.
كيان موحد
في 10 فبراير من عام 1972 ميلادية، انضمت إمارة رأس الخيمة إلى الاتحاد، ليكتمل كيان سياسي موحد وقوي، وقد جاء بناء الاتحاد إضافة إلى كونه ضرورة حتمية لمواجهة التحديات التي كانت تواجه المنطقة، ترجمة عملية لتعزيز أواصر القربى وصلات الرحم بين أبناء الإمارات جميعاً. وتحولت دولة الإمارات العربية المتحدة، خلال سنوات قلائل من قيام اتحادها، دولةً عصريةً مزدهرةً، ينعم مواطنوها بالرفاه والرخاء، بفضل القيادة الحكيمة والعطاء السخي والجهود المخلصة للمؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.