انشغل المهتمون بالتراث الإماراتي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بعمليات الجمع والتوثيق، فراحت الجهود تتنامى من شكلها الفردي القائم على عدد من الباحثين، إلى عدد من الجمعيات الأهلية، وصولاً إلى المؤسسات الرسمية التي شكلت فرقاً منظمة وزعتها على مختلف إمارات الدولة لتسجل روايات كبار السن، وتوثق التاريخ الشفهي والمحكي للمنطقة بأكملها. وانعكس ذلك الجهد بصورة واضحة على حركة الاهتمام بالتراث بأكملها، إذ راحت جهود البحث والجمع تنتج متخصصين، ودارسين، يوثقون الحكاية الشعبية، والشعر الشعبي القديم، ويدرسون تاريخ الأزياء، والحرف اليدوية، وحتى الألعاب، فشهد العقدان الأخيران الكثير من الإصدارات في هذه الحقول منها ما ظهر على شكل موسوعات متكاملة تروي تاريخ المكان وأهله.

كل هذا الحراك يفرض تساؤلات حول المرحلة التي يقف فيها التراث الشعبي اليوم، فهل تجاوز المهتمون مرحلة الجمع والتوثيق وباتوا أمام عمليات إعادة قراءة ودراسة وتحليل؟ وهل التفت الشعراء والباحثون في الأدب الشعبي إلى عمليات نقد الأدب وتحليله؟ وإن ظهرت جهود من ذلك النوع فما هو حجمها وما هي أشكالها، وهل حققت أثراً ملموساً في هذا الجانب، أم لا؟ وباستطلاع عدد من آراء الباحثين والشعراء المهتمين في الأدب الشعبي سواء الحكاية، أو الشعر، أو غيرها من المرويات الشفاهية، انقسموا حول حجم الجهد المبذول في هذا الجانب، وحول تاريخه ومراحله، إلا أنهم اتفقوا على غياب الدراسات النقدية والتحليلية للأدب الشعبي اليوم، وغياب الطاقات المؤهلة لحمل مثل هذا الجهد.

مختبر الدراسة

مدير بيت الشعر في الشارقة الشاعر محمد البريكي قال: «إن المتابع لتاريخ عمليات العناية بالتراث الشعبي وخصوصاً الأدب فيه، سواء الحكاية أو القصيدة، يجد أنها ظلت طوال العقود الماضية منشغلة في الجمع والتوثيق، وهذا ظهر في عدد من الجهود التي وثقت تجربة الشاعر بن ظاهر، أو الشاعر عوشة «فتاة العرب»، أو غيرهما من الشعراء، لكن ذلك كله لم ينتج تطوراً كافياً لوضع تلك المواد الأدبية تحت مختبر الدراسة والنقد والتحليل».

ويضيف: «رغم أن الصحافة المحلية لعبت دوراً في تشكيل بوادر مثل هذه الدراسات التحليلية والنقدية، فظهرت صفحات متخصصة في الصحف اليومية كان يشرف عليها شعراء كبار وباحثون، وقدمت خلال ثمانينات القرن الماضي قراءات وتقارير حول الأدب الشعبي، إلا أنها لم تتنام لتنتج متخصصين في هذا الجانب وتظهر مؤلفات ودراسات في هذا الحقل».

مرحلة الجمع

ويرى الكاتب والباحث ماجد بو شليبي «أن التراث الإماراتي لم يصل إلى مرحلة الدراسة والنقد لأسباب كثيرة، منها أن مرحلة الجمع لم تنتهِ بعد، فالجهود المبذولة في هذا الجانب كثيرة إلا أنها مشتتة وغير منظمة، وتتوزع بين الجهد الفردي والمؤسسي، لذلك تحتاج مرحلة الجمع أن تتبلور وترسو معالمها الكاملة لتخرج عمليات في النقد والدراسة والتحليل. كما أن حركة النقد في الخليج العربي بصورة عامة لا تعد نشطة وذلك بالنظر إلى النقد الأدبي بأكمله، فلا يمكن الحديث عن نقد للأدب الشعبي في ظل غياب الناقد الأدبي العام».

ويبين انه إضافة لهذا لم تتشكل معالم واضحة لشكل الدراسات النقدية في مختلف الآداب الشعبية العربية، إذ حتى تلك التي ظهرت في بعض التجارب العربية استندت إلى مدارس النقد الأدبي الغربي، فأحدث ذلك إشكالية صعبة تتمثل في إقحام الأدب الشعبي بمختلف لهجاته وفنونه وأساليبه على معايير جاهزة لا تنتمي للسياق الثقافي العربي. ويعتبر بوشليبي أن كل تلك المعيقات كان يمكن أن تهدم ويمكن أن تلقى جهوداً فردية واعية ونشطة لو كان حقل الأدب الشعبي يلقى التحفيز والدعم الكافي، فحتى اليوم لا توجد جوائز أو مسابقات للنقد الأدبي بصورة عامة، فكيف سيكون هناك حافز للناقد المتخصص في الأدب الشعبي؟.

جهود متواصلة

ويؤكد الشاعر عبد الله الهدية غياب الدراسات والنقد في الأدب الشعبي بقوله: «على مستوى الإمارات لا يزال الأدب في مرحلة التوثيق، ولم تخرج تجارب يمكن الرجوع إليها بوصفها نقداً أو تحليلاً منهجياً».

ويشير إلى «أن ذلك كله لم يقدم حتى اليوم دراسات أكاديمية وعلمية منهجية يمكن الركون إليها في قراءة الأدب الشعبي بكامل أشكاله، فعلاوة على غياب الناقد بصورة عامة، لم يدخل الأدب الشعبي في المناهج الدراسية سواء المدرسية أو الجامعية الأمر الذي جعلها بعيدة عن متناول الباحث الأكاديمي والناقد المتخصص».

مُنتج توثيقي

ويتفق أمين سر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في الشارقة الكاتب د. منصور الشامسي، في رأيه مع الهدية، إذ يعتبر أن التراث الشعبي الإماراتي بصورة عامة يواجه بعض الإشكالات المتعلقة في غياب المتخصصين من بعض القائمين على رعايته، وغياب السياسات المنهجية الواعية في دعمه، وتأكيد حضوره، والاستفادة منه.

ويقول: «غالباً ما نقف على جهود فردية في هذا الإطار خصوصاً عند العودة إلى حصيلة المنتج المعرفي والتوثيقي للأدب الشعبي الإماراتي في ثمانينات القرن الماضي».

حالة غياب

وتؤكد الروائية فتحية النمر حالة الغياب التي يشهدها النقد والتحليل للأدب الشعبي، إذ ترى: أن الأدب الشعبي إبداع عفوي، يحمل ملامح الشعب، يحفظ سماته، ويؤكد عراقته، يعبر عن همومه، ويمثل روحه وطريقة تفكيره وتذوقه، ورغم ذلك لا تزال الجهود في تحليله نقده وإعادة قراءته لا تزيد عن كونها قراءات عابرة، ووجهات نظر، وردود أفعال وآراء انفعالية.

تعيد جانباً من الإشكالية إلى تركيز النقاد والدارسين جهدهم على الأدب الحديث والمعاصر، إذ تتعالى الأصوات في هذا الشأن ولا يتوقف المثقف والكاتب الإماراتي والعربي عن الحديث عن غياب النقد، واختفاء جهود الدارسة بمفهومها الفردي النابع عن الشغف والاهتمام.

إعلام تراثي

وقفت الصحافة المكتوبة داعماً لجهود العناية بالتراث، فظهرت في ثمانينات القرن الماضي صفحات تقدم الشعر الشعبي، وتوثق لتاريخ المعالم التراثية، وتروي حكايات الأجداد، وامتد ذلك الاهتمام ليصل إلى الصحافة المسموعة، والمرئية فظهرت العديد من البرامج المعنية بالتراث الشعبي بكافة أشكاله.