قال القديس أوغستين في معرض حله للغز الفيلسوف اليوناني العائد للقرن الخامس قبل الميلاد زينو الأيلي: «إنه يحل بالمشي». وكان جوهر هذا اللغز استخدام الفيلسوف الشهير لمفهوم قابلية الزمن والفراغ المطلقة للانقسام، للبرهنة على أننا لا نستطيع أن نبلغ قط مقصدا بعينه.. وكانت تلك هي إجابة القديس أوغستين الموفقة.

ولكن كما تبين، فإن هناك الكثير من الألغاز والمشكلات الأخرى التي يمكن حلها من خلال المشي، وعلى سبيل المثال، فإنه في ثقافتنا القائمة على الإفراط في العمل والإرهاق، والتي نرتبط فيها ونشكل على مدار 24 ساعة في اليوم طوال أيام الأسبوع السبعة، والتي نبتعد فيها عن معظم الأشياء التي تعد مهمة حقا في حياتنا، كيف يمكننا الاستعانة بقدرتنا على الإبداع وبحكمتنا ومقدرتنا على الاندهاش ورفاهيتنا وقدرتنا على التواصل مع ما نقدره حقا؟ فلنعد إلى إجابة القديس أوغستين: «إن هذا اللغز يحل بالمشي».

طوال عمري، وبقدر ما أستطيع أن أتذكر تقريبا، كان المشي حلا بالقطع، وعندما كنت صبية تكبر في اليونان، كانت قصيدتي المفضلة هي «إيثاكا» من نظم الشاعر اليوناني كفافيس، وكنت أنا واختي أغابي نحفظ هذه القصيدة عن ظهر قلب قبل أن نستطيع فهم معناها حقا. وكانت القصيدة تستهل على النحو التالي:

«عندما تنطلق في رحلة إلى إيثاكا،

فلتبتهل لكي يكون الطريق طويلا،

حافلا بالمغامرة، مليئا بالمعرفة».

ولكنني أدركت عبر السنوات أن الرحلة التي يمكن أيضا أن تكون حافلة بالمغامرة ومليئة بالمعرفة - لا يتعين أن تشمل طائرات وسيارات وجوازات سفر، ففوائد الرحلة متاحة على الدوام من خلال المشي.

هناك بالطبع الكثير من النظريات التي تدور حول المشي، وقد تبنى مفكرون مختلفون مناهج بالغة الاختلاف. فبالنسبة لتوماس جيفرسون كان الهدف من المشي هو تصفية الذهن من الخواطر، وقد كتب يقول: «إن الهدف من المشي هو إراحة الذهن، ومن هنا فإنك لا ينبغي أن تسمح لنفسك بالتفكير بينما تعكف على المشي، ولكن عليك أن تحول انتباهك من خلال الأشياء المحيطة بك».

وبالنسبة لآخرين، مثل نيتشه، فإن المشي كان شيئا بالغ الأهمية بالنسبة للتفكير، وقد كتب نيتشه في كتابه «غسق الآلهة» يقول: «كل الأفكار العظيمة يتم تصورها خلال المشي». وبالمثل فإن المشي كان بالنسبة لهمنغواي طريقة لتطوير أفضل أفكاره عندما يمعن التفكير في مشكلة ما، وقد كتب في كتابه «مائدة متنقلة» يقول: «عندما كنت أنتهي من عمل ما، أو أحاول أن أمعن التفكير في شيء ما، فإنني كنت أبادر إلى المشي، وكان من الأسهل أن أفكر عندما أمشي أو أفعل شيئا ما، أو أرى أناسا يقومون بشيء يفهمونه».

ويتمثل ما هو أقل ذاتية من ذلك، في الدراسات العلمية التي تظهر بصورة متزايدة فائدة المشي وغيره من التمارين الرياضية، باعتبارها فائدة حقيقية وملموسة للغاية. وقد قال غاسبر سميتس أستاذ علم النفس في جامعة ساذرن ميثودست: «لقد أصبح من الواضح أن هذا التدخل جيد، وبصفة خاصة بالنسبة للاكتئاب الذي يتراوح بين المعتدل والبسيط».

وقد أظهر البحث كذلك فوائد مماثلة لمجرد الوجود في إطار الطبيعة، وأوضحت دراسة أن قضاء الوقت في الأماكن الطبيعية يجعلنا أكثر كرما وأكثر حبا للجماعة. وأوضحت دراسة أخرى أجراها باحثون هولنديون، أن الذين يقيمون على بعد كيلومتر واحد من حديقة أو منطقة فيها أشجار، يعانون معدلات أقل من الاكتئاب والقلق. وقد قالت د. كاثرين كوتريلا من كلية الطب في جامعة تكساس: «مع تزايد ارتفاع نفقات الرعاية الصحية، فإنها تدفعنا إلى التفكير في المناطق الخضراء، باعتبارها نوعا من الوقاية من الأمراض».

والأكثر إثارة للاهتمام، هو الصلة بين العملية العضوية المتمثلة في المشي وبين التفكير. وقد وجدت دراسة نشرت في مجلة التطور النفسي الأوروبية، أن الأداة المعرفية تزيد عندما يقوم الشخص بالسير فعلا.

ربما كان إجبار الذهن على التعامل مع بيئة جديدة يسمح له بالتفاعل بشكل أكثر كمالا، وتلك هي إحدى النظريات المتعلقة بالكيفية التي ننشط بها قدرتنا على الإبداع. وقد كتب المؤلف غريغوري بيرنز المهتم بالتفكير بأشكال مختلفة: «إن أفكارا جديدة تأتي من النساء ومن البيئات الجديدة، أي الظروف التي يجد الذهن فيها أنه من المتعذر التنبؤ بما سيحدث لاحقا». وهكذا فإنه في المرة المقبلة التي يتعين عليك فيها أن تمعن التفكير في قضية ما، بادر بالقيام بنزهة، فذلك يجعلنا أكثر صحة ويزيد من لياقاتنا الصحية، ويرفع مستوى كل نشاط معرفي نقوم به، من الإبداع إلى التخطيط ووضع البرامج الزمنية، والفضل من هذا كله أن المشي يعيد ربطنا بأنفسنا.