يتّسم المشهد السياسي العالمي بقدر كبير من الضبابية، المقرونة بموروثات العقود التي تلت الحرب الباردة وانهيار العملاق السوفيتي، على حين غفلة من دهر الحقائق المادية والوجودية.
فقد بدا ذلك الانهيار غرائبياً بقدر تسارعه الحُر، حتى أن الاتحاد السوفيتي الذي كان يغمر أربعة أرجاء العالم برعايته الواضحة، أضحى يبحث عن مساعدات وحلول لمشاكله الداخلية، وصولاً إلى النتيجة الحتمية التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية، وبداية العهد العالمي الأمريكي الذي نظَّر له عراب الدبلوماسية الامريكية الأشهر.. المقيم في عقيدة الحرب الدائمة هنري كسينجر.
يومها قال كسينجر إن على الولايات المتحدة أن تنتهز الفرصة السانحة، بترجمة مركزيتها الدولية، من خلال مبادرة استراتيجية تضع منابع الطاقة تحت سيطرتها، وتلحق أوروبا الشرقية بغربها الحليف للولايات المتحدة، وتُحاصر ما بقي من الاتحاد السوفيتي في المربع الروسي.
تلك التنظيرات الكيسنجرية وجدت لها هوىً في أفئدة ونفوس البراغماتية السياسية الأمريكية، المدججة بقوة الدولة العظمى ونفوذها العالمي. ومنذ ذلك اليوم البعيد القريب باشرت الآلة الإعلامية والسياسية تدوير الريغانية الجديدة، وفق مرئيات أكثر راديكالية ووضوحاً، وهكذا بدأت متوالية ما بعد أحداث سبتمبر.
وبهذه المناسبة، أود الاشارة إلى البرنامج الانتخابي للجمهوريين الجُدد الذي سبق أحداث سبتمبر، والذي نصَّ في استشرافاته الجديدة، وغير المألوفة في تواريخ البرامج الانتخابية الأمريكية، على اعتبار أن الشرق الأوسط الكبير هو بمثابة الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
وتبعاً لذلك لم تعد أمريكا اللاتينية هي الوعاء الخلفي، كما جرت العادة تقليدياً.. وإلى ذلك نصَّ برنامج الجمهوريين الجُدد، على فك الاشتباك الحميد بين الميزانية الاتحادية الأمريكية والميزانيات المحلية الخاصة بالولايات.. وكان محتوى الرسالة يقضي بأن على المحليات تدوير القيم المالية الخاصة بالطريقة التي يرتأونها، حتى لو أدى الأمر إلى الاستثمار المالي الصرف عن طريق فوائد ودائع البنوك، والتوسع في الرهون العقارية والاستثمارية غير المرتبطة بمشاريع جدوى اقتصادية واضحة المعالم.
وهو ما مهَّد لظهور الفقاعة التي سبقت الانهيار المشهود في عديد الشركات والبورصات المالية، وأفضى إلى عديد الأزمات الاقتصادية الداخلية، وخاصة ما يتعلق منها بالرهن العقاري الذي طال ملايين المواطنين الأمريكيين.
جرى كل ذلك في ظل حروب متعددة شنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وخاصة إدارتي بوش الأب وبوش الابن الجمهوريتين.. وكانت النتيجة مزيداً من تحميل الاقتصاد الأمريكي أثقالاً باهظة، مقابل الفرص الكبيرة التي نالتها الاقتصادات الأوروبية الأكثر حماية، كالاقتصادين البريطاني والألماني، إضافة إلى الفرص المواتية التي نالتها روسيا والصين، مما انعكس على التنمية والتطوير في كلا البلدين.
الحالة الروسية تلخَّصت في استعادة السيطرة على الاقتصاد الداخلي المتنوع كماً وكيفاً، حيث نجحت روسيا في تحقيق تنمية متصاعدة، فيما أعادت تدوير مؤسسة الصناعات العسكرية الاستراتيجية، حتى أننا نستطيع القول إن روسيا لا ينقصها الشيء الكثير لكي تستعيد مكانة الدولة العظمى المعتمدة جوهراً وأساساً على مقدراتها الداخلية.
وفي المقابل ازدهر الاقتصاد الصيني ليسجل قفزة كبرى، ويتحوَّل من الرقم 13 عالمياً، إلى ثاني اقتصاد كبير في العالم بعد الولايات المتحدة.. غير أن الصين اعتمدت في تسارع نمائها على قدرتها الاختراقية للتجارة الدولية، ومرونتها في التعامل مع ثمار التكنولوجيا، وهي بهذا تعيد إنتاج التجربتين اليابانية والكورية الجنوبية، في أُفق أشمل وأوسع.. لكن هذه التجربة تجعل الصين تعتمد اعتمادا واسعا على العوامل الخارجية، وعلى أسواق التصريف التجارية الدولية، عكس الحالة الروسية المُجيَّرة على الموارد الذاتية والاقتصاد الريعي الكبير.
العرض العابر لهذه المحطات التي وسمت الاقتصادات الأمريكية والأوروبية والروسية والصينية، يفسر لنا الحالة الراهنة في التدافع السياسي القلق الذي تعيشه البشرية. فالمسألة لم تعد مُختصرة في الخلافات حول الحالة السورية والنظر إليها، بل في الموروثات السلبية للعلاقات بين الكبار، الذين يعجنون العالم بأجنداتهم الخاصة وتمترساتهم المزعجة.
فالتبنِّي الروسي لنظام بشار المنقرض، يتًّسم بقدر كبير من النزعة الأيديولوجية المقيمة في تصفية الحسابات مع واشنطن، ولدرجة تنحسر فيها الاعتبارات المرتبطة بالمُتغير الداخلي الأمريكي، المحكوم برؤية الديمقراطيين وكفاحهم ضد الريغانية اليمينية. وتتبنَّى الآلة الإعلامية الروسية نظام الموت والدمار في دمشق، نكاية بالولايات المتحدة وحلفائها، فيما تقبع الصين في منزلة بين المنزلتين، مُدركةً أن مصالحها الهائلة عرضة للخطر في روسيا وأمريكا وأوروبا.
لا يمكن وصف مثل هذه الحالة إلا باعتبارها حالة طفو غرائبي فوق الحكمة والعقل، فلا يعقل أن تكون عقيدة الحرب الباردة وسياسات كسر العظم بين الكبار، مرآة لقراءة البؤس القائم في سوريا، أياً كان مصدره ولونه.. وهو أمر يستدعي، بالمنطقين العقلي والشكلي، موقفاً دولياً موحداً يُجبر المتحاربين على الانصياع لإرادة العقل الجمعي العالمي، الذي يستطيع الكبار تجسيده وتعميمه بقوة القانون الدولي. ولنا كل الحكمة في التوافق الداخلي اليمني، الذي ما كان له أن يكون لولا وحدة الموقفين الإقليمي والدولي تجاه الحالة اليمنية، التي سبقت التوقيع على المبادرة الخليجية.
لقد ارتضى العالم نتائج الحرب العالمية الثانية وتسوية الإرادة الكُلِّية عبر مجلس الأمن الدولي وأعضائه الدائمين.. ولا يعقل بعد كل هذا وذاك، أن يكون الُّلجاج والجدل البيزنطي، سمة أساسية في قراءات البيت الأبيض والكرملين لما جرى ويجري في سوريا. وفي المقابل، على الأعضاء الآخرين الدائمين في مجلس الأمن الدولي مكاشفة الحلفاء الكبار، قبل أن تقع الفأس في الرأس، وتدخل البشرية نفقاً مظلماً يصبح فيه استخدام أسلحة الموت الشامل بروفة قابلة للتكرار.