وددت أن أضع عنواناً شعبياً ليعبر عن "ساق البامبو" خير تعبير. و"ساق البامبو" هذا عنوان لرواية مبدعة، ألفها شاب كويتي اسمه سعود السنعوسي، نالت جوائز عدة، والأهم أنها نالت رضى الجمهور الواسع، ومن بينهم كاتب هذه السطور. والحق أنني ما أن أهداني إياها د. شملان العيسى حينما ذهبنا إلى إحدى المكتبات الواقعة في شارع الضيافة في زيارتنا الأخيرة لدبي، حتى انكببت عليها قراءة أبتغي معرفة نهايتها، وفي ذات الوقت مستمتعاً بتفاصيلها الدقيقة.
رواية تحكي عن التمزق الوجداني الناجم عن البحث عن الهوية والانتماء، فهو كويتي لكنه بوجه ولسان فلبينيين، وهو في الفلبين "عربو" أما في الكويت فهو "فلبينو". والرواية لا تقتصر معالجتها على قضية الانتماء والهوية والجنسية، بل تتعداها إلى معالجة ظاهرة الانتماء الثقافي والديني، والتي مر بها بطل الرواية عيسى، بين الكاثوليكية بحكم عيشه مع أمه في الفلبين، وبين البوذية التي تلمس تعاليمها حينما كان يعمل في مانيلا ويسكن مع صديق ينتمي إلى هذه الديانة، ثم ديانة أبيه وهي الإسلام الذي كانت تحدثه عنه أمه، والتي لم تكن متشجعة على "تعميده" بالكاثوليكية لأنها كانت تشجعه على العودة إلى أرض أبيه.
ومن الطريف أن عيسى، وهو الاسم الذي أطلقه أبوه عليه، و"هوزيه" كما كانت عائلته تناديه في الفلبين، قد اكتشف بالمعايشة وبفطرته السليمة أن الأديان جميعاً في جوهرها تدعو إلى الفضائل: الصدق والإخلاص والإتقان في العمل، وتحرم المال والعرض والنفس، وتركز على السلام والمحبة. والأطرف تلك الصورة التي كانت تراوح خيالاته عن الإسلام، يوم أن كان صبياً يلهو في مرابع ديار أمه في الفلبين، ويوم أن شب عن الطوق وأخذ بالاستقلال عن أسرته ليعمل بائعاً للفواكه، ومدلكاً، وأخيراً بحاراً في قارب خشبي يضرب بقصبته الطويلة، ليوصل السائحين من ضفة إلى أخرى في إحدى الجزر السياحية.
صورة القائد المسلم لابو- لابو السلطان، الذي حارب المستعمرين الأسبان في القرن السادس عشر، والذي يعتبره الفلبينيون أحد أهم الأبطال القوميين لديهم، ويعتزون به، وبين الصورة المقابلة، وهي صورة مرعبة وكريهة، تلك التي رسمها أبو سياف في القرن الواحد والعشرين وهو يقطع رؤوس العباد ويسلبهم أموالهم ويعتدي على أعراضهم! لكن صورة الإسلام النقي تتبدى له حينما يعود إلى أرض أبيه راشد عيسى الطاروف (اسم مُتخيل).
وعيسى هذا هو ثمرة زواج عرفي تم بين جوزافين الخدامة الفلبينية، وراشد ابن عائلة الطاروف الوحيد، وحينما حملت جوزافين وافتضح أمرها، رفضت أمه غنيمة الكنة والحفيد، فما كان من راشد إلا أن بعث بهما إلى الفلبين ليعيشا هناك، ولتنقطع أخباره اللهم إلا النفقة الشهرية التي كان يبعثها لهما، ولتظل أمه تذكره دائماً بأبيه وبلاده البعيدة. ثم تتزوج الأم لكن ذكرى راشد تظل في وجدانها، ثم تسمع أنه وقع في الأسر لأنه كان من أبطال المقاومة أيام الاحتلال.
وحينما توصد أبواب الرزق في وجه عيسى، يقرر العودة إلى بلاد أبيه، ليسكن أولاً عند صديق أبيه غسان، الذي يكتشف أنه من البدون، ثم ليتوسط غسان عند جدته لتقبل به على مضض خوفاً من كلام الناس وتسكنه في الملحق مع الخادمة والسائق والطباخ! وفي ملحقه الفاخر، قياساً بما كان عليه، يجد كل شيء إلا الحب والقبول.
وفي الكويت تتبدى أمامه التقسيمات الاجتماعية التي تفصل هذه الفئة عن الأخرى، وتتضح له أيضاً الهوة السحيقة القائمة بين الأقوال والأفعال. فعمته هند، الناشطة في مجال حقوق الإنسان، لم تقف في صفه، ولم يدفع تدين عواطف لتقبل ابن أخيها، أما هند فكانت منسجمة مع ذاتها ومع التقاليد التي تسير عليها. وكانت الجدة بين نارين: حب حفيدها الذي كان صوته طبق الأصل لصوت أبيه، وحيدها الذي فقدته، وخوفها على أنسبائها وعلى مستقبل ابنتها وحفيدتها اللتين لم تتزوجا بعد. حاول عيسى بكل ما أوتي من قوة أن يزرع البامبو في أرض أبيه، ليكتشف أن شجرة البامبو لا يمكنها أن تنمو إلا في الأرض التي تنتمي إليها!