الأمّة العربية تعاني الآن من حروبٍ أهلية ومن تنافس القوى الدولية الكبرى ومن وجود مشاريع «إقليمية» هامّة على جوارها، وفي قلبها المحتلّ إسرائيلياً. لكن الأزمات العربية المشتعلة الآن سببها أصلاً وأساساً حال الضياع والفراغ في الأمّة، والانشداد والاستقطاب القوي الحاصل لصالح المشاريع الدولية والإقليمية، دون وجود حدٍّ أدنى من رؤية عربية مشتركة، أو «مشروع عربي» يملأ هذا الفراغ الحاصل منذ منتصف سبعينات القرن الماضي بالمنطقة، حينما غادرت مصر دورها الطليعي العربي، ولم تعد بعدُ إليه منذ معاهدات «كامب ديفيد». الأمّة العربية بحاجة إلى مصر التي عرفها العرب في منتصف القرن العشرين، والتي كانت تقود نفسها وجوارها العربي والإفريقي والآسيوي في معارك التحرّر الوطني من قوى الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
من غير المعلوم بعد كيف ستكون الأوضاع في محيط مصر العربي خلال المرحلة القادمة، وكيف ستتغيّر الأوطان وموازين القوى على الأرض، ومن الذي ستدعم القوى الخارجية استمراره ومن ستحاربه، في منطقة تُراهن إسرائيل على بقائها ضعيفةً متصارعة مع نفسها، ومشلولٌ قلبها المصري وعاجزٌ عن الحركة خارج حدوده!.
وكم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة، بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثمّ عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها، وقد كان بعض هذه الدول الكبرى مساهماً في تأسيس النواة الأولى لجماعات التطرّف والإرهاب، وتسهيل وجود هذ الجماعات وانتشارها. وها هي الآن، هذه الدول الكبرى، تتحدّث عن أمن وحرّية ومصالح الشعوب العربية بينما لايزال مرفوضاً لديها حدوث أي انتفاضة فلسطينية ضدّ الاحتلال، فكيف بمقاومته عسكرياً، في حين شجّعت هذه الدول بعض شعوب المنطقة على استخدام العنف المسلّح من أجل تغيير حكوماتها!!.
قد يعتبر البعض أنّ الإشارة الآن إلى حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي مجرّد حنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة في صراعاتٍ وخلافاتٍ سياسية ومذهبية عمرها أكثر من 14 قرناً، ونتائج تلك الصراعات لن تكون إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون «الدولة اليهودية» نموذجاً لدويلاتٍ دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!. فاليوم تشهد كل بلاد العرب «حوادث» و«أحاديث» طائفية ومذهبية وإثنية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها.
إنّ استذكار حقبة جمال عبد الناصر في مصر ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هو دعوةٌ للمقارنة بين نهجٍ ساد في العقود الأربعة الماضية، مقابل نهج «ناصري» واجه أزماتٍ أكبر، داخلياً وخارجياً، وواجه صراعاتٍ لم تزل مستمرّة منذ منتصف القرن العشرين، لكن لم تشهد الأمّة العربية حينما كانت مصر تقودها ما تشهده الآن من انقساماتٍ وتفتّتٍ وذلٍّ وهوان.
لقد استطاع جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي أن يحقّق، للمرّة الأولى في تاريخ العرب الحديث، صحوةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدةٍ وطنية شعبية في كلّ بلدٍ عربي، وإلى استخدام الوسائل السلمية في التغيير وفي الدعوة للوحدة العربية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في الأطر كلّها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وصحيحٌ أنّ «مرحلة ناصر» انتهت منذ أكثر من أربعة عقود، لكن دروسها للحاضر والمستقبل مازالت قائمة، فالهُويّة العربية هي حالة انتماء لكل العرب ولم يخترعها جمال عبد الناصر، وهي ليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته ليختلف بشأنه العرب، بل هي هُويّة ثقافية مشتركة لكلّ سكّان الأمّة العربية بغضّ النظر عن طوائفهم ومذاهبهم وأصولهم الإثنية. ثمّ أنّ أيَّ حلمٍ بنهضة عربية شاملة يحتاج تحقيقه إلى دورٍ مصريٍّ فاعل، وإلى تكاملٍ بين وضوح الهويّة العربية وبين البناء الديمقراطي السليم وبين الحرص على أولوية التحرّر الوطني واستقلالية القرار السياسي عن ضغوطات «الخارج» أو الحاجة إليه!.
تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في العقود الأربعة الماضية، منذ خروج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، كان منها إمّا ما هو بفعل إراداتٍ وظروفٍ محلية، أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً.
والأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سلبيّات العقود الماضية، وأخطر هذه السلبيّات هو تصاعد دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلدٍ عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية. فليست الظروف الداخلية فقط هي وراء عناصر الصراعات في هذا البلد وذاك، بل يلعب أيضاً التدخّل الدولي والإقليمي دوراً هاماً في تقرير مصير بعض البلدان العربية.
إنّ الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن في أكثر من بلدٍ عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل بعدُ كلّها بالعرب إلى قاع المنحدر، فمازال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. لكن وجود هذه المخاطر فعلاً، وما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» يجب أن يكون، هو ذاته، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة.
إنّ العرب كلّهم في سفينة واحدة مهما اختلفت درجاتهم وممتلكاتهم ووظائفهم على هذه السفينة، ومصر هي الربّان في هذه السفينة، وبتعطيل دورها حصل التيه وسط الرياح والأمواج العاتية ودار الصراع على من يقود السفينة، وغابت أيضاً البوصلة السليمة التي لا تتوفّر إلاّ بوجود قيادة سليمة لمصر نفسها، وهذا ما كان مفقوداً منذ توقيع المعاهدات مع إسرائيل.
أيّها المصريون.. أعيدوا لمصر ولكلّ العرب، مصر التي نفتقدها منذ أربعة عقود. مصر التي قوّتها في عروبتها، والتي أمنها لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها وعن وادي نيلها الممتد في العمق الإفريقي. مصر العربية التي ترفض الإنعزال والفئوية والتي لا تقبل أن تستنزفها صراعاتٌ عُنفية أو أيديولوجية، ولا تلهيها أوضاع اقتصادية أو معارك هامشية عن استعادة دورها القومي المنشود.