إن القراءة لا تعني تحصيل كم كبير من المعلومات والإحاطة بما يدور حولك من اتجاهات فكرية وتنمية الوعي لدى الفرد فحسب، ذلك أن القراءة غذاء للروح.
فكما أن جسد الإنسان يذبل وتضمر عضلاته وينحل عوده ولا يستقيم له القيام بوظيفة حين يحرم من الطعام لفترة من الزمن، كذلك فإن الأمر لا يختلف كثيراً عند من أهملوا القراءة، فذبلت أرواحهم وأصيبت أدمغتهم بحالة من التكلس الفكري فأصابهم العجز عن الخروج بفكرة مبتكرة، أو رؤية أفق جديدة ليحسنوا أعمالهم، فنحن نعيش بالروح والجسد معاً والقراءة غذاء الروح.
وإذا كانت العديد من الأسر تشكوا من ضعف مردود العملية التعليمية عند أبنائهم، على الرغم من الدعم غير المحدود لتطوير التعليم من قبل القيادة الرشيدة، غير أن ذلك يرجع، في جزء مهم منه، إلى اقتصار مفهوم التعليم على المصادر النظامية المتمثلة فيما يتم إدراجه في الخطة الدراسية .
وهو ما يخصم من رصيد المصادر التعليمية رافداً غير رسمي وهو التشجيع، وإن شئت الدقة الدفع، إلى القراءة، لتتمايز المهارات وليخرج لنا الشاعر المرهف، والكاتب المبدع، والباحث المحقق، والمفكر الحصيف، كل ذلك لن يتم من دون القراءة.
إن القراءة في حقيقتها تمثل حالة من أهم حالات التواصل الإنساني والانفتاح على الآخر دون تمييز، باعتبار أن الناس تعرف بالحكمة والحكمة لا تعرف بالناس.
وإننا في عالم لا مكان فيه لمن يعيش منفصلاً عن عصره أو أن يستغني عن الآخر وينغلق على نفسه، الذي بدوره يولد التشدد المبني على الجهل، لذا فإن القراءة تمثل سداً منيعاً أمام كل الأفكار الهدامة، فمن الصعوبة بمكان التغرير فكرياً بمن يعوون ما يحيط بهم من أحداث ولديهم القدرة على التمييز بين الفكر الذي ينشر التسامح لا التعصب، البناء لا الهدم، التنوير لا التجهيل، التعايش لا التنابذ،..
وهو ما أكده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، حين جعل من عام 2016 عام القراءة قائلاً «القراءة تفتح العقول، وتعزز التسامح والانفتاح والتواصل، وتبني شعباً متحضراً بعيداً عن التشدد والانغلاق، وهدفنا ترسيخ دولة الإمارات عاصمة ثقافية عالمية بامتياز، وإحداث تغيير سلوكي دائم، وتحصين ثقافي للأجيال القادمة».
وفي تقديري أن تخريج جيل قارئ له جناحان، الأول أن يصبح الكتاب جزءاً مهماً في حياة كل أسرة، بحيث يعتاد عليه أبناؤنا منذ نعومة أظفارهم، وأن تكون هناك حملة وطنية شعارها «مكتبة في كل بيت»؛ وأقصد هنا المكتبة الورقية، باعتبارها كياناً محسوساً يمكن إدراكه ورؤية سلوكيات التعامل معه..
وهو ما يترسخ لدى الأبناء عند الاقتداء بمن هم أكبر منهم سناً، فالطفل الفرنسي الذي نراه يمسك بالكتاب في القطارات لم يفعل ذلك إلا بعد أن تكررت صورة والديه وهما يقومان بذلك السلوك بشكل متكرر حتى أصبح جزءاً من السلوك المعتاد لأبنائهم، وهنا يكون دور الأسرة مهماً باعتبار أنها البيئة الأولى للطفل التي يكتسب منها أهم خبراته وأكثرها تأثيراً.
الجناح الآخر لإشاعة ثقافة القراءة أن يكون هناك حالة من الدفع للإنتاج الفكري في كل المجالات وتشجيع الطاقات الشابة على الكتابة والنشر، لأن فتح المجال أمام الطاقات الوطنية لنشر إبداعاتهم هي دعوة لهم لمزيد من القراءة، باعتبار أن الكلمة هي زاد من يقدم فكراً وبابها هو القراءة.
كما أن تلك الدعوة الكريمة تأتي في إطار الاستثمار في الإنسان الذي دأبت القيادة التأكيد أنه الثروة الحقيقية للإمارات، فلا ابتكار دون علم ولا علم دون قراءة. ومن الأهمية بمكان أن تتحمل كل المؤسسات الثقافية والتعليمية والجمعيات الأهلية مسؤولياتها الوطنية في وضع خطط طويلة الأجل لإشاعة ثقافة القراءة ووضع أهداف يمكن قياس مدى تحققها بين الحين والآخر..
كما أن القطاع الخاص لا يجب أن يكون بعيداً عن تلك الرؤية، وبخاصة أن العديد من الدراسات تؤكد أن القراءة والاطلاع تزيد من كفاءة العاملين وتعظم من مردودهم..
كما أنها تساهم بصورة واضحة في الارتقاء بسلوكهم وقدراتهم على مواجهة المواقف الصعبة، وحل المشكلات التي تحتاج إلى قرارات استثنائية بما يعود في الأخير بالفائدة على منظومة العمل، وخاصة أن اقتصاد المعرفة يحتاج إلى كفاءات وطنية مثقفة يتم رعايتها حتى يشتد عودها في عصر الانفجار المعلوماتي.
ولأن الكلمة الأولى التي نزل بها الروح الأمين على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أول سورة هي «اقرأ» لذا فإننا بالقراءة نبدأ من حيث أمر الله نبيه أن يبدأ، وأكرم بها من بداية.