سنوات ست مرت على ثورة 25 يناير في مصر، وحتى اللحظة، وكغيرها من الأحداث التاريخية الكبرى في مختلف بلدان العالم، لم يكتب بعد التاريخ الحقيقي لها.

عدم وجود تأريخ نهائي موضوعي وتفصيلي لثورة يناير، لا يعني عدم القدرة على تلمس بعض من ملامحها الرئيسة، وملامح يناير خلال السنوات الست ليست واحدة، فهي اختلفت عبر مراحلها المختلفة المتعاقبة، لتنتهي إلى ما هي عليه اليوم.

ولئن كانت ثورة يناير ونجاحها في إنهاء حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، مرده الرئيس هو مشاركة قطاعات واسعة من الشعب المصري في أيامها الثمانية عشر، فإن دور الشباب فيها كان المشهد الأكثر بروزاً فيها، وتوقع كثيرون في الأسابيع والشهور الأولى التالية لتخلي الرئيس مبارك عن السلطة، أن يتواصل دور الشباب في المراحل التالية، وصولاً إلى بناء صيغة جديدة غير مسبوقة لحكم مصر، يقوم فيها الشباب بالدور المركزي.

إلا أن هذه الفرصة التاريخية لقيام شباب مصر بهذا الدور، لم تدم طويلاً، فلم نصل إلى نهاية عام 2011، حتى بدأت الأخطاء الكبرى تقع، وسوء الحسابات والتقدير يطيحون بسرعة هائلة بكثير مما اكتسبه الشباب المصري من ثقة بأنفسهم، ومما منحه لهم المجتمع من تقدير وتوقع لأدوار أكبر.

وخلال هذا العام الأول، بدا واضحاً أن شباب الائتلافات الثورية التي تشكلت أثناء الثورة، وبعد رحيل مبارك، قد بلوروا تصورا مشتركاً، على الرغم من الاختلافات الكثيرة بينهم، للنجاح والفشل، يقوم على فكرتين رئيستين: الأولى أن مجرد وجود الجيش في أي صيغة انتقالية أثناء الثورة، هو بذاته أمر منافٍ، بل معادٍ للديمقراطية وللثورة، وعودة للحكم العسكري، والثانية أن جوهر الثورة، هو الحركة الجماهيرية التي توجد دوماً في الشارع، وبصورة خاصة ومحددة في ميدان التحرير، للدفاع عن الثورة ودفعها للأمام.

انطلاقاً من هذا التصور وفكرتيه الرئيستين، سارت معظم ائتلافات الشباب، التي تبنته خلال العام الأول التالي لثورة يناير، ليدخلوا في صراعات حادة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، معتبرين أن تناقض الثورة الرئيس معه، وأنه حل محل نظام مبارك بصورة معدلة، وأن البلاد بحاجة لثورة جديدة «لإسقاط حكم العسكر».

وكان لافتاً خلال تلك الفترة، مع هيمنة هذه الفكرة وهذا الشعار على تحركات شباب الثورة، عدم قيامهم بأي محاولة للمشاركة في التجربة الحزبية الجديدة في البلاد بعد الثورة، مفضلين الاحتفاظ بائتلافاتهم ذات الطابع النخبوي، التي نشأت بعد الثورة أو قبلها بقليل.

وبدا هذا العزوف عن المشاركة السياسية المنظمة في عملية ديمقراطية، جوهرها تأسيس الأحزاب، ثم إجراء الانتخابات البرلمانية، وهما طريقان معتمدان لأي ديمقراطية ذات طابع مؤسسي، متناقضاً بشدة مع الخطاب المعلن لشباب ائتلافات الثورة، الذي كان يدعو دوماً لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي بعد الثورة.

لقد بدت الديمقراطية في خطاب وسلوك قطاعات واسعة من ائتلافات الشباب، وكأنها مجرد ممارسة مجموعات من النخبة لحق النقض أو «الفيتو»، على ما تعتقد أنه خطأ أو انحراف في سلوك المجلس العسكري، دون السعي الجاد للتواصل مع عموم الناس، وتنظيم صفوفهم في مؤسسات حزبية ونقابية، وترويج القيم الديمقراطية بينهم، ودفعهم للمشاركة في بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وفى مقدمها المجالس النيابية والمحلية.

ولما أتت انتخابات مجلس الشعب في نهاية عام 2011، بعد تأجيلها، بناء على رغبة الائتلافات الشبابية، عزفت أغلبيتها الساحقة عن المشاركة فيها، ما زاد من عزلتهم ونخبويتهم في مواجهة نحو 60 % من المصريين شاركوا فيها للمرة الأولى في تاريخهم الحديث. وكان هذا من الأسباب المهمة لإفساح الطريق واسعاً أمام جماعة الإخوان وحلفائها السلفيين في هذا الوقت، لاكتساح المجلس النيابي بأغلبية تصل لثلاثة أرباعه تقريباً.

وبهذا، ظهر واضحاً أن فكرة الطليعة الواعية، سواء بمفهومها الليبرالي أو اليساري، كانت لا تزال مسيطرة عليهم، في مواجهة جماهير عريضة، بدت بالنسبة لهم غير واعية أو قادرة على الدفاع عن مصالحها. من هنا، زاد يقين الائتلافات بأن دورهم الطليعي لا بد أن يكتمل قبيل الذكرى السنوية الأولى لثورة يناير، بقيادة الجماهير «الغافلة»، للقيام بثورة جديدة، وتعالت أصوات معظمها داعية لهذا.

ولم يتوقف تبني هذا المفهوم للثورة المستمرة الدائمة عند تلك المرحلة من تاريخ ثورة يناير، بل ظل قائماً لدى قطاعات شبابية كثيرة في كل ذكرى لثورة يناير، ما زاد يوماً بعد آخر من عزلة أصحابه، وفي الوقت نفسه، تزايد حدة وتشدد أفكارهم ومواقفهم، وضرب في النهاية في الصميم، تجربة شبابية كانت واعدة في مصر، مع ثورتها العظيمة في يناير 2011.