وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملته الانتخابية بالخروج من اتفاقية باريس المناخية حيث سبق أن زج نفسه قبل سنوات في شؤون لا يفقه فيها حين صرح بأن التغيرات المناخية خدعة اخترعها الصينيون بغية السيطرة على أسواق العالم متجاهلاً ما ذهبت إليه المؤسسات العلمية العالمية وتوصيات العلماء الأميركان بهذا الشأن.

ووعد انطلاقاً من هذا المنظور بأنه سينقذ صناعة الفحم التي تعمل أوروبا منذ سنوات طويلة على محاصرتها بسبب التلوث البيئي الذي تحدثه والذي يزيد عما يحدثه البترول والغاز كثيراً. الرئيس ترامب، حسب تصريحه، يرفض أن يتحكم مجموعة من البيروقراطيين خارج الولايات المتحدة بما يستهلكه المواطن الأميركي من الطاقة.

هذا الموقف يعكس نظرة الازدراء التي يحملها الرئيس الأميركي اتجاه العلماء متجاهلاً حقيقة أن هؤلاء هم من صنع الولايات المتحدة القوية المنيعة المتفوقة التي أصبحت قدراتها بين يديه ليتحكم بمصير العالم بل بمصير كوكب الأرض.

هذا التوجه الخطير يضع عقبات جدية لا يمكن الاستهانة بها أمام الجهود التي تبذل منذ سنوات في أنحاء العالم وعلى مستويات مختلفة بحثية وتخطيطية وتصنيعية لجعل الطاقة النظيفة منافسة قوية للوقود الإحفوري الأكثر استخداماً في العالم والذي يعتبره العلماء وفي مقدمتهم الأميركيون ويعتبرون المسؤول عن ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية والأعاصير والجفاف والفيضانات، فذلك لم يعد مجرد فرضية نظرية بل مؤشرات لا يمكن تجاهلها.

سبق أن طُرح موضوع الاحتباس الحراري في لقاءات دولية سابقة منها مؤتمر ريو الذي نظمته الأمم المتحدة عام 1992 تحت شعار التنمية والبيئة في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب حيث رفضت الولايات المتحدة التوقيع على البروتوكول الخاص بالعمل على تخفيض الانبعاثات التي تؤدي إلى هذه الظاهرة متذرعة بكلفتها المرتفعة على الفرد الأميركي.

وانسحبت الولايات المتحدة عام 2001 في عهد الرئيس جورج بوش الابن من مؤتمر كيوتو رافضة التوقيع أيضاً على البروتوكول الخاص بهذا الموضوع للسبب نفسه علماً بأن الدول الصناعية الأخرى وهي اليابان ودول الاتحاد الأوروبي قد وقعت عليه.

إلا أن الرئيس باراك أوباما وضع حدا لمسلسل العزوف الأميركي عن الانخراط في الجهد الدولي لمواجهة التحديات البيئية فوقع عام 2015 اتفاقية باريس التي وقعت عليها 192 دولة بضمنها الصين للمرة الأولى، وهي اتفاقية أنجزت بصعوبات بالغة رغم أنها تتماشى مع الاتجاه الأساسي للتنمية العالمية. فقد تعهدت إدارة أوباما في باريس بالحد من الانبعاثات الأميركية بنسبة (26- 28) % من مستويات عام 2005 بحلول 2025.

من غير الممكن تحقيق أي تقدم نحو معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري وغيرها من المشكلات البيئية ما لم تلتزم الولايات المتحدة بالسياسات التي تتعلق بإيقاف التداعي البيئي التي تقرها الهيئات الدولية، فهي مع الصين أكبر دولتين مستهلكتين للطاقة، فهما ينتجان معا قرابة 40 % من مجموع الطاقة الكهربائية الكلية المنتجة في العالم من مختلف المصادر، فحم ونفط وغاز ومفاعلات نووية ومحطات كهرومائية وطرائق أخرى، مما يجعلهما مسؤولتان أكثر من غيرهما عن التردي في الوضع البيئي.

ورغم الضغوط الدولية الشديدة التي تعرض لها الرئيس ترامب خاصة من حلفائه الأوربيين إلا أنه قرر المضي قدماً نحو تنفيذ وعده، فقد وقع في الثامن والعشرين من مارس المنصرم وهو محاط بمجموعة من عمال مناجم الفحم الأمر التنفيذي الخاص بإلغاء اللوائح والقوانين المتعلقة بتغيير المناخ والتي أقرت في عهد سلفه باراك أوباما، قائلا بفخر «هذا المرسوم يوقف الحرب على الفحم ويلغي القوانين التي تقضي على الوظائف».

قوبل قرار الانسحاب من الاتفاقية في الأول من يونيو الماضي باستنكار واسع في عدد من الولايات الأميركية ومن قبل شركات صناعية كبيرة، وبعض الشركات الكبيرة في عالم المال، ومن قبل شخصيات ذات وزن سياسي وفكري في المجتمع الأميركي.

أما على المستوى الدولي فقد تسبب هذا القرار بخيبة أمل واسعة لأنه مؤشر خطير على مدى تراجع مبدأ الالتزام الذي تعزز بجهود شاقة وعلى مدى أمد طويل بأهمية التحالفات والشراكات في مواجهة القضايا المشتركة، فهذا التراجع يفتح الباب واسعا لدول أخرى لتتصرف فرادى أو مجتمعة مما يضعف في نهاية المطاف المسعى الدولي الإيجابي نحو نظام عالمي أفضل.

ويأتي انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) الذي أعلن عنه مؤخراً استكمالاً للتخلي الأميركي عن الدور الذي ينبغي أن تلعبه القوة العظمى الأكبر في العالم في أحد أهم المحافل الثقافية.