على مدار ثلاثة عقود من الزمن، منذ سقوط المعسكر الشيوعي، وانتهاء الحرب الباردة، كانت كوريا الشمالية، بالنسبة لواشنطن، قضية تحدٍّ من الماضي، لا تستأهل الكثير من الاهتمام الفعلي في الإدارات الأميركية المتعاقبة.

ولذلك، حاولت واشنطن في السنوات الماضية، استيعاب الفورات العصبية الكورية الشمالية، بأقلّ حجمٍ من ردود الأفعال الأميركية. واستخدمت واشنطن «العصا والجزرة» معاً في مفاوضاتها مع بيونغيانغ أكثر من مرّة. فأميركا سعت عدّة مرّات لعدم تصعيد الأزمة مع كوريا الشمالية، وها هي تصل الآن إلى حدّ عقد قمّة جمعت الرئيس ترامب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. لكن لن يكون من مصلحة واشنطن الوصول إلى حلٍّ شامل للأزمة الكورية، ينهي نفوذها ووجودها العسكري في المنطقة، فتجميد الأزمة كان لعقودٍ من الزمن، هو الهدف الأميركي، لا حلّ هذه الأزمة جذرياً أو تصعيدها عسكرياً.

واشنطن نظرت إلى التصعيد الكوري الشمالي في الأعوام الماضية، وكأنّه صرخة احتجاج، ودعوة إلى تقديم مساعدات ووقف للحصار، ولم تعتبر واشنطن كوريا الشمالية في أي مرحلة زمنية، منافساً استراتيجياً لها، كما كان حال الاتحاد السوفييتي، أو كما هما الصين وروسيا الآن، لكن بيونغيانغ نجحت في اختيار التوقيت لتفجير الأزمة مع واشنطن، وهي مارست التأزيم بهدف الحلّ الشامل لأزمتها مع الولايات المتّحدة، وليس من أجل الحرب المدمّرة لها. فبيونغيانغ تريد طمأنةً لها بأنَّ أميركا لن تستهدفها عسكرياً في المستقبل، ولن تعمل على تغيير نظامها السياسي، وهي تريد مساعداتٍ نفطية وغذائية، وتريد طاقةً نووية كهربائية، وهباتٍ مالية، وعدت بها أميركا واليابان والمجموعة الأوروبية في اتفاقات عام 1994.. أي أنّ بيونغيانغ مارست التشدّد مع واشنطن، بهدف القرب منها، وليس من أجل الحرب معها. وواشنطن أدركت ذلك في السابق، ما جعلها تطلق صفة «الابتزاز» على الأسلوب الكوري الشمالي في الأزمة التي تصاعدت بعد توقّف المفاوضات السداسية، في العقد الماضي، بسبب جملة من الشروط الأميركية.

كوريا الشمالية في أزماتها المتكرّرة مع واشنطن، لم يكن عندها ما تخسره، فهي تعاني من أوضاع سيّئة، ولن تنتظر قدوم حتفها إليها، من خلال أسلوب الموت البطيء الذي يحصل من خلال الحصار والعقوبات الاقتصادية. وقد حاولت بيونغ يانغ، إلى أقصى الحدود، استخدام تهديداتها بما تملكه من قوّةٍ نووية وعسكرية، لكي تحصل على اعتراف أميركي بالنظام الحالي، ووقف العقوبات المتراكمة عليه. ويبدو أنّ ذلك ما أدركه الرئيس ترامب، ويسعى لتقديمه لزعيم كوريا الشمالية، كثمن لانتصار سياسي خارجي يحتاجه الآن الرئيس الأميركي، لأسبابٍ داخلية عديدة.

إنَّ شبه الجزيرة الكورية، كانت موقعاً مهمّاً استراتيجياً لأميركا خلال حربها الباردة مع المعسكر السوفييتي، عندما كانت واشنطن تبحث عن قواعد لها في دول شرق آسيا، من أجل دعم وجودها العسكري في اليابان، ولتستكمل الحصار على الاتحاد السوفييتي. وقد تحقّق ذلك لأميركا في حقباتٍ زمنية مختلفة، إلى حين سقوط المعسكر الشيوعي، كما أنَّ واشنطن استطاعت أن تنهي الحرب الكورية في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، بمعاهداتٍ تضمن وجود قواعد عسكرية لها على أراضي شبه الجزيرة الكورية، إضافةً إلى تقسيم كوريا إلى دولتين، وهو الأمر الذي فشلت فيه واشنطن في حربها بفيتنام خلال عقد الستّينيات.

فلا واشنطن مارست مؤخّراً أي تصعيد عسكري ضدّ كوريا الشمالية، ولا هي ترغب به، ولا بيونغيانغ اعتدت على أي أراضٍ أو سفنٍ أميركية أو حلفاء لأميركا، ولا الصين ولا روسيا ولا اليابان ولا حكومة كوريا الجنوبية مع أيّ حربٍ جديدة في شبه الجزيرة الكورية. ولعلّ هذه «الخطوط الحمراء»، هي التي جعلت كلّ الأطراف ترحب بالقمّة بين ترامب وكيم جونغ أون، وبإمكانية التوصّل إلى تسوية شاملة، تحافظ على نظام كوريا الشمالية، وتتعامل معه، لكن مع رقابة وشروط دولية مقابل رفع العقوبات عنه.

لكن ترامب قبل توجّهه شرقاً، أثار غرباً أزمةً سياسية واقتصادية مع حلفاء مهمّين جدّاً للولايات المتحدة، فهو غادر قمّة «جي 7» في كيبك الكندية، قبل انتهاء اجتماعات القمّة، مخلّفاً وراءه امتعاضاً كبيراً لدى زعماء كندا وفرنسا وألمانيا، بسبب إصراره على التعرفة الجمركية التي فرضها على واردات الولايات المتحدة من الصلب والألمنيوم، ما أضاف مشكلةً في علاقات واشنطن الخارجية مع حلفائها الأوروبيين والكنديين على مشكلات أخرى، مثل قضية المناخ، ومسألة القدس، وغيرها من القضايا التي أصبحت موضع خلافٍ كبير بين واشنطن وعدّة عواصم حليفة لها.

أفلا يلفت الانتباه ما يسببه ترامب الآن من مشكلات في علاقات واشنطن مع حلفاء لها، بينما هو يسعى للتقارب مع خصومها، كحالة كوريا الشمالية، التي هدّد زعيمها العام الماضي، بتدمير الولايات المتحدة، وباستخدام السلاح النووي ضدّها؟!. أيضاً ما فاجأ به ترامب قمّة مجموعة «جي 7»، من دعوة لمشاركة روسيا من جديد في المجموعة، رغم العقوبات المتّخذة بحقّ موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية؟!

أخرج ترامب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية، وهدّد بالخروج من المزيد منها، وهي اتفاقيات تحقّق مصالح قومية أميركية مع جيرانها الكنديين والمكسيكيين ومع الحلفاء، الأوروبيين ودول أخرى في آسيا. وأين كانت «المصالح القومية الأميركية» في قرار ترامب بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة الأميركية إليها، وهو قرار يتناقض مع قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن، ومع سياسة أميركية سار عليها كل من سبقه من رؤساء أميركيين؟!

يبدو فعلاً أنّ الشعار المُعبّر عن سياسات الرئيس الأميركي الآن، هو «ترامب أوّلاً.. ثم تأتي أميركا».

 

مدير مركز الحوار العربي في واشنطن