قديماً، اتسمت حياة الناس بالبساطة والسهولة، حيث الطبيعة البكر التي وهبت قاطنيها خيرات لا تحصى، فيما تمتع القدامى بذكاء فطري جعلهم يستفيدون مما وهبه الله لهم من بيئة، فطوعوها لخدمتهم. وأهل دبي قديماً أقاموا على ساحلهم حياة خاصة بأسلوب عيش استثنائي، بينما ظلت النخيلة بالنسبة لهم الكنز الذي لا ينضب، تمرها غذاء وسعفها إيواء.
وشكّلت بيوت السعف في الإمارات نمطاً معمارياً متميزاً، عكس حياة المكان في بداياته، بين الساحل والصحراء، تجسدت خلالها لوحة تراثية لحياة الأجداد، فقد يُخيّل للكثيرين أن هذه البيوت، بسيطة البناء وسهلة التشييد، إلا أن المتمعن فيها جيداً، يجدها تحمل كثيراً من المجهود مغلفاً بالفن والمهارة التي تميزوا بها آنذاك.
ولبيوت السعف أنماط وأشكال متعددة حسب الحاجة، فهناك بيوت لسكن الصيف، وبيوت للشتاء، ولكليهما ما يميزه من خصوصية للبيئة التي يُشيّد فيها والتي تحيط به، إن كان حر الصيف وقيظه، أو برد الشتاء وصقيعه.
بيت السعف
وفي هذا المضمار قال الباحث التاريخي عبدالعزيز صالح الشحي، مؤلف كتاب «بيت السعف» الذي بحث في تاريخها المعماري، مدعوماً بأقوال من عاصروا تلك الفترة، ومحققاً في كل المعلومات التي تهتم بهذا الشأن، إن بلدية دبي ممثلة بإدارة التراث العمراني، تولي أهمية كبيرة للاهتمام بكل ما من شأنه توثيق تراث دبي، والتحقيق والبحث فيه وعنه، ليتسنى تقديم المعلومة الصحيحة المدعمة بشهادات أصحابها ومعايشاتهم.
ولفت إلى أن هذا النمط من البناء التراثي له تاريخ عميق، لابد للأجيال الحالية، أن تتعرف عليه، وعلى أنماطه وكيفية بنائه، وكيف كانت حياة الأجداد، وأنماط معيشتهم التي عكست ترابطاً وتماسكاً ورضا بالحال، رغم شظف العيش آنذاك.
وذكر أن ما دفعه للبحث في تاريخ بيوت السعف، عدم التوثيق لهذا النمط المعماري، إلا من بعض الأخبار المتناثرة هنا وهناك، مضيفاً انه جمع المادة العلمية الموثقة، عن أطوال وأشكال وارتفاعات هذه البيوت، إضافة إلى المواد المستخدمة في البناء.
أنواع البناء
وأوضح الشحي أن بيوت السعف، هي تلك البيوت التي بنيت من سعف وجذوع النخيل، وتنقسم أنواعها إلى: «بيت العريش، وخيمة مجردة، وخيمة قصايب، وخيمة مكبة، والغرفة، وعريش مخيّد أو محيب، والعشة». وأشار إلى أن أجواء الحرارة الشديدة والرطوبة العالية التي اتسمت بها المنطقة كانت عاملاً مؤثراً في اللجوء إلى هذا الأسلوب المعماري، خاصة أنه كان يعمل على العزل الحراري صيفاً أو شتاءً، مبيناً أن كلفة البناء كانت بسيطة، لتوفر المواد والخامات من خلال البيئة المحيطة التي اشتهرت بزراعة النخيل.
مواد البناء
وبين أن المواد التي كانت تستخدم في تشييد بيوت السعف تنوعت بين جذوع النخيل، وجذوع الأشجار المحلية مثل السدر، أو القرض، أو اللوز، أو الشريش، أو الجندل، المتوفر في البيئة المحلية.
وأيضا هناك سعف النخيل والحبال التي تصنع من ليف النخيل، إضافة إلى خوص النخيل التي تغزل على هيئة حصر «سيم نبي» وهو اللحاف الذي يوضع على سقف الخيمة.
الوقت والتكلفة
ولفت إلى أن الزمن المستغرق في البناء يعتمد على عدد الأشخاص الذين يشاركون فيه، فكلما كان العدد أكبر، كان الإنجاز أسرع، فعلى سبيل المثال، إذا كان عدد العمال 5 أو 6 أشخاص، يتم الانتهاء من البناء في حدود يوم، أما إذا كان اثنان أو ثلاثة أشخاص فسينجز البناء في ثلاثة أيام أو أكثر.
وذكر أن تكلفة البناء لغرفة صغيرة كانت تصل إلى 30 روبية في ذلك الوقت، وكان لا يتقاضى البنّاء في بعض الأحيان أجره، إذ يتم توفير الفطور والغداء والعشاء له حتى ينتهي من البناء، موضحاً أن بيت السعف الذي يحتوي على غرفة ومطبخ ومظلات ومنامة وغيرها من احتياجات الأسرة، تقدر تكلفته بنحو 5000 روبية.
العمر الزمني
وأشار عبدالعزيز الشحي إلى أن معظم البيوت السعفية التي كانت تشيد في فصل الصيف، تصل أعمارها إلى خمسة أشهر فقط وهي فترة الصيف، وتعتبر بالنسبة لأهل الإمارات مصيفاً، وبعد انقضاء فترته، تقلع هذه البيوت وتخزن للعام المقبل، أما البيوت الشتوية فقد تصل أعمارها إلى نحو 10 سنوات وهي أكثر مقاومة للبرد والرياح. وتعتبر عوامل الطقس والجو الجاف أو الرطب مؤثرة بشكل كبير في تحديد الأعمار الزمنية لبيوت السعف عموماً.
التكلفة تبدأ بـ30 روبية.. وأجرة البنّاء وجبات فطور وغداء وعشاء
محلية الصنع
قال الباحث عبدالعزيز الشحي إن أدوات البناء كانت محلية الصنع، وتتكون من الإبرة الكبيرة المعروفة بـ «الدفرة» والمنجل الذي يطلق عليه «الداس»، وهناك أيضاً «الزفانة» وهي عملية ربط سعف النخيل المجرد من الخوص والشوك، إذ يبدأ العامل بقص الخوص اليابس من النخلة بعد تجريده، وتتم هذه العملية غالباً في شهري يونيو ويوليو من كل عام، حيث يتم تنظيف النخيل والحفاظ على شكله ومظهره الجيد، ويتم الاستعانة بالخوص في صنع بيت السعف.
استخدامات
مدارس ومستشفيات ومخازن طعام من سعف النخيل
تتعدد استخدامات بيوت السعف بين الشتاء والصيف، وقد بُنيت منها المدارس والمستشفيات، واستخدمت حظائر لصيد الأسماك، ومخازن لحفظ الطعام، ومنها ما هو صيفي مؤقت أو شتائي دائم.
ولبيوت سعف النخيل أسماء ومواصفات محددة، وهي تعرف في مجتمع الإمارات قديماً حسب التصنيف التالي: بيت العريش هو بيت صيفي سقفه منبسط. والخيمة المجردة «خيمة برستي» التي تبنى في فصل الشتاء، وتراعى فيها قلة التهوية ورص الجريد جيداً، ويكون سقفها هرمياً.
وخيمة «قصايب» التي تبنى لفصل الشتاء وأمامها العريش. وخيمة «مكبة» المخصصة للشتاء وتكون غالباً لذوي الدخل المحدود. وعريش مخيد «محيب» وهو نوع من أنواع العريش، عرف في الإمارات الشمالية، ويُرص جداره بالجريد في الأسفل ويخيّط، وفي الجزء الأعلى يكون السعف متباعداً عن بعضه للتهوية.
و«العشة» وهو بناء معروف عند أهل البادية، يبنى من سعف النخيل المجرد من خوصه، وغالباً ما يكون بناءً مؤقتاً، حيث تميل جدرانها على بعضها البعض كوسائد.
أنواع
20% من نخيل العالم إماراتي
أشار الباحث التاريخي عبدالعزيز الشحي، إلى أن أعداد أشجار النخيل في الدولة ارتفعت إلى أكثر من 40 مليوناً حسب إحصاءات العام 2000، وهي اليوم أكثر ببضعة ملايين، وأصبحت الدولة الآن موطناً لنحو 20% من أشجار النخيل في العالم، وتضم 550 نوعاً، إذ تعتبر منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، الموطن الأصلي لها، لافتاً إلى الاهتمام الخاص الذي أولاه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لأشجار النخيل، انعكست صورته في ازدياد المساحات المزروعة، وإنتاج التمور وجودتها.