بلا شك نحن نفتقر إلى حد كبير للغة المنطق وهي في الغالب العامل المشترك لتحقيق التقارب في وجهات النظر وقد يلجأ البعض إلى ما يسمى اللهجة البيضاء أي اللغة الوسط بين العامية والفصحى مشيرين إلى أنها تقرب لغة التفاهم بين الناس، وبين الثقافات المتفاوتة للعقول.
ويواجه الطلبة اشكالية الفهم من المعلمين الذين يتحدثون العامية، وكذلك المشاهدون لا يفهمون كلمات عامية ينطقها مذيعون من اقطار عربية مختلفة. واللغة العربية الفصحى هي الأساس في الحديث والتعليم، لكن الى أي مدى يطبق ذلك واقعيا؟
أعشق الفصحى
الشاعر عبد الله الهدية رغم عشقه للفصحى التي كتب بها 70% من قصائده، إلا أنه خصص الــ30% الباقية للشعر النبطي الذي كتبه باللهجة البيضاء، وأشار إلى أن البيضاء هي لغة السهل الممتنع التي يستعين بها الإعلام المكتوب إذ إنها تبتعد عن المفردات الفصيحة التي قد يعتبرها العامة معقدة وغير مفهومة.
ويقول الهدية: نحن خلقنا لأنفسنا لغة بيضاء أقرب للفصحى من المحكية، وهي لغة مشتقة في الأساس من الفصحى بحيث تخلو تماما من الكلمات المحلية لتكون القاسم المشترك بين الشعوب العربية..
وتخرج المتحدث بها من قوقعة العامية إلى الفصحى قليلا، وقد اتفق العرب في السابق على لغة قريش ليتواصلوا ويتحدثوا بها، وعندما يرتقي شاعر النبطية بلغته أو يهبط شاعر الفصحى بها يصل كلاهما إلى اللهجة البيضاء.
وابن الإمارات لا يعاني من فهم اللهجات بحكم أن معظم الجاليات العربية تعيش على أرض الدولة، ويعتبر اللهجة المصرية الأقرب والأسرع في الفهم لدى الأغلبية قائلا لقد تربينا على أيدي معلمين مصريين في مدارسنا، بالإضافة إلى المسلسلات والأفلام المصرية التي سيطرت في السابق عن غيرها..
كما أننا حوصرنا بالثقافة المصرية في كثير من الأبعاد، أما الآن فإن المسلسلات الناطقة بالخليجية انتشرت مما ساهم في فهم لهجاتنا الخليجية المختلفة.
وأضاف أجد فارقا كبيرا بين إلقاء القصيدة النبطية والفصحى، إذ إنني أشعر بالنشوة حين ألقي قصيدتي بالفصحى التي تتمتع بسحر ومذاق خاص لأنها لغة البيان، فيما تعتبر البيضاء ابنتها، ولا يمكن أن تكون البنت أهم من الأم، لذا أشتاق إلى المسلسلات التاريخية الناطقة بالفصحى لأروي عطشي من اللغة.
وأضاف أن الكثير من الكلمات العامية الخاصة بدولتنا غير مفهومة لدى الآخرين مثل كلمة (طشونة) أي قليلا من الوقت، وكلمة (طمطمة) وتعني الإنسان غير الواعي، أما كلمة (علي ولم) فهي تعني ثمرة البطاطس.
لهجتنا هي هويتنا
الإعلامي عبد الله راشد بن خصيف الشهير بـ«أبو راشد» يدافع عن لهجته المحلية ويتمسك بها في برنامجه (الرابعة والناس) الذي يبث من قناة عجمان يوميا قائلا: لا أريد أن تميع لهجتنا وسط العديد من اللهجات الموجودة على أرض دولتنا الإمارات والتي يفوق عدد متحدثيها مئتي جنسية، كما أن لهجتنا جزء من هويتنا الوطنية وهي تعزز حاضرنا أيضا.
وأشار إلى أنه يطبق منهج الكثير من البلدان التي تتمسك بلهجتها المحلية، مبتعدا عن البيضاء التي وصفها بأنها مسخ من العربية وليست لها هوية ولا تستند إلى أصل فهي لهجة خاوية على حد تعبيره.
وقال من خلال تمسكي بلهجتي المحلية سأفرضها على الآخرين وأجبرهم على تعلمها وفهمها، ويتضح ذلك من خلال الرسائل النصية أو الاتصالات التي تردني أحيانا من المستمعين يستفسرون عن بعض الكلمات المحلية..
حيث ذكر أحد المتصلين الإماراتيين أثناء حديثه معي على الهواء كلمة (شقيق) فوردتني رسالة نصية إلى البرنامج من متصل عربي الجنسية يستفسر عن معنى الكلمة التي بدت غير واضحة لديه، فأفهمته بأنها تعني في لهجتنا المحلية خاصة لدى سكان السواحل، جمع شقة أي شققا.
أما في حياتي العادية فأضطر في كثير من الأحيان إلى التخفيف منها إذا احتجت لشرح موضوع مهم لشخص من جنسية عربية مختلفة.
الإلمام باللهجات منعاً للحرج
زميله الإعلامي راشد الخرجي الشهير بـ«أبو عمر» يقول: هناك أنواع من اللغة البيضاء من وجهة نظري بالإضافة إلى التي نتحدث بها إلى الجاليات العربية هناك أيضا لهجة عربية مكسرة نتحدث بها مع الفئة الآسيوية..
وعن نفسي أستخدم البيضاء في برنامجي الإذاعي اليومي (البث المباشر) الذي يذاع من قناة نور دبي، وهي لهجة نظيفة يفهمها المواطن والمقيم العربي، وعندما أضطر لذكر كلمة محلية أحاول بقدر الإمكان البحث عن معناها بمختلف اللهجات العربية لأوضحها للجمهور.
وعلى سبيل المثال الجملة التي أستخدمها دوما في الفواصل هي باللهجة المحلية (خلكم مكانكم ولا تخوزون) وهي تعني بالفصيح (ابقوا معنا)، لم يكن الجمهور من الجاليات العربية في البداية يفهمها، إلا أنه مع التكرار والتوضيح اصبحت مفهومة لديهم.
وأكد على أن المذيع خاصة في الإمارات لا بد أن يلم بكل اللهجات ليعرف اختلاف معاني الكلمات بينها، وذكر موقفا طريفا تعرض له حيث كان مذيعا على الشاشة الفضية في قناة دبي، حين تلقى اتصالا هاتفيا أثناء البرنامج من متصلة تدعى نادية من المغرب..
وبعد أن عرضت ما لديها قال لها بلهجته المحلية (يعطيك العافية)، ما أثار غضب المتصلة وأغلقت الهاتف على الهواء وحين أعادوا الاتصال بها ليعرفوا سبب غضبها الذي بدا لهم غريبا، اتضح أن هذه العبارة تعني بلهجة المتصلة المغربية دعاء بالهلاك في جهنم الأمر الذي أثار حفيظتها ظنا منها أنهم يسبونها أو يستهزئون بها.
الفصحى مفتاح المذيع الناجح
فيما يؤكد الإعلامي محمد خلف مدير إذاعة وتلفزيون الشارقة، أن من أهم مقومات المذيع الناجح هي إجادة اللغة العربية، مشيرا إلى أنها من أهم شروط اختيار المذيعين، وقال إنه دائما يحث طلبة الجامعات ممن يرغبون في الانخراط في العمل الإعلامي، بدراسة اللغة العربية كمعيار أساسي للنجاح في المهنة، مفتاح التخاطب مع الناس.
وأضاف أنه لا بأس من استخدام ما يطلق عليه باللغة البيضاء أو الصفراء أو السهلة كما يحلو للبعض تسميتها، في التخاطب مع الناس، أما في البرامج فلا بد من استخدام الفصحى غير المقعرة لأنها تعد قاعدة للتخاطب والتواصل مع فئات عريضة من المجتمع العربي.
محند عبد الحميد جزائري يعمل في دبي يقول: لقد عشقت الفصحى من خلال الكثير من القصائد التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم مثل «الأطلال» وغيرها، لذا قررت عندما جئت للعمل في الإمارات أن أختار الفصحى كلغة تفاهم بيني وبين الناس هنا لأن لهجتي الجزائرية خاصة البربرية غير مفهومة على الإطلاق للشعوب العربية الأخرى.
ويحكي محند مواقف طريفة تعرض لها في بداية عمله في الإمارات قائلا: حين كان يجتمع بنا رئيس القسم في العمل كان يتحدث كل زميل بلهجته المحلية، وعندما يحين دوري اتحدث بالفصحى فينقلب الاجتماع إلى ضحكات سخرية واستهزاء لأنهم لم يتعودا على أن يتحدث شخص عادي بالفصحى في مكان العمل.
وذات مرة في أحد هذه الاجتماعات وجه لي رئيس القسم سؤالا بالفصحى فضحك الزملاء كثيرا وقالوا له لقد أصبت بعدوى الفصحى من محند عبد الحميد، بعدها قررت أن أختار اللهجة البيضاء وهي عبارة عن مزيج بين اللهجات المختلفة ووجدت استحسانا من الناس حين أتحدث بها إليهم، غير أنني ألجأ إلى الفصحى في بعض المواقف عندما أتعامل مع المصادر، حيث إن معظم الإماراتيين يحبونني حين أتحدث بها إليهم مما يسهل عملي كثيرا.
اللغة الفصحى هي البيضاء التي توحد الأمة
جاء رأي الدكتور رشاد سالم مدير الجامعة القاسمية في الشارقة مغايراً، ونافياً لوجود ما يسمى باللغة البيضاء، مشيراً إلى أن اللهجات إما فصحى أو عامية متولدة عن الفصحى، وبينهما لغة الإعلام، وهي لغة ركيكة خاصة الإعلام المرئي إذ إن الإعلاميين لا يتقعرون في اللغة.
وبين أن اللهجة العامية هي لغة ميسرة خالية من التقعر اللغوي، وتضاف إليها القيود الصوتية الخاصة بكل بلد. وقال: لا أستطيع أن أطلق عليها بيضاء، فأي بياض فيها وهي تقطع الحبال بين الدول العربية، أما البيضاء فهي التي يجب أن تجمعنا على هدف واحد ولهجة واحدة.
وحين نتقعر في اللهجات المحلية المختلفة نجد كلاماً لا يجتمع العرب على فهمه مثل كلمة (دياي) أو (ريال) وهما كلمتان محليتان في الإمارات لا يفهمهما سوى أهلها بمعنى (دجاج) و(رجل)، وكذا الحال في صعيد مصر مثل كلمة (لع) وهي تعني (لا)، وكلمة (دردة) وهي تعني منطقة جرجة في صعيد مصر.
وقال بلهجة مصرية (كلمة بيضاء تستخدم في الحاجة الحلوة) واللهجات العامية تبقى محصورة على بيئتها، أما البيضاء الحقيقية فهي التي توحد الجميع على لغة واحدة، والعربية مُوحَّدة مُوحِّدة ، أما اللهجات العامية فهي بقايا لهجات قديمة مثل عبارة (تشيف حالتش) أي كيف حالك..
ولكنها نطقت بطريقة الكاف المشيشة، ولو قارناها بالقرآن الكريم لاختلف المعنى تماما مثل سورة الكوثر التي لا نستطيع أن ننطقها هكذا (إنا أعطيناتش التشوثر)، وكذا الحال في عبارة (لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك) فلو نطقناها بالكاف المشيشة لاختلف المعنى وأصبح غير واضح.
لذا بات من المعلوم أن اللغة الفصحى هي البيضاء التي توحد الأمة من المحيط إلى الخليج، واللغة من أهم مقومات القومية العربية المشتركة لأنها لغة القرآن الكريم، أما اللهجات فتقتصر على بيئتها وهي ميسرة، وعندما نرغب في الإعلان عن سلعة ما باللغة الفصحى يكون أوسع انتشاراً أما إذا أعلنا عنها باللهجة الجزائرية مثلا فلن يلتفت إليها سوى أهل الجزائر فقط لأن لهذه اللهجة نمطاً نطقياً لا يفهمه غيرهم.
ولكننا نستطيع القول إن هناك لغة وسطية لا ترتقي إلى الفصحى ولا تهبط إلى العامية الدارجة بل هي سهلة ميسرة تشبه لغة الإعلام حيث يفهمها العامي والمثقف ولا يمكن أن نطلق عليها بيضاء بل لغة وسطية لا تتمسك بالقواعد، مشيراً إلى أن هذه اللغة تضر بالأمة لأنها وقف على بيئتها.
وأشار إلى أن الخطورة ليست في أن يتحدث الناس بلهجاتهم وإنما تكمن في التحدث بها في المنتديات العامة والمؤتمرات أو في نشرات الأخبار مثل بعض القنوات اللبنانية التي يذكر فيها المذيع أو المذيعة وزير الثقافة قائلاً (وزير السآفة)..
مشيرا إلى ضرورة الالتزام بنطق الحروف العربية خاصة في تعاملنا مع القرآن الكريم، فلا يجوز أن نقول (سورة البأرة) بدلاً من البقرة، أو كما في اللهجة السودانية حيث ينطقون حرف الغين بدلاً من القاف فلا يجوز أن نقول (الله غادر) بدلاً من قادر.
لهجة واضحة ومفهومة بين الناس
سلمى حسن سودانية تعمل في جهة حكومية بالشارقة قالت: غالبا أستخدم مفردات اللهجة البيضاء الواضحة في التعامل مع زملائي وأصدقائي في الإمارات نظرا لتباين جنسياتهم..
وأبتعد عن المفردات العامية السودانية، وأحب أن أشاهد المسلسلات التاريخية التي تحمل قصصا جميلة على أن تكون ناطقة بالفصحى مثل مسلسل (أبو ليلى) والمهلهل وحرب البسوس، ومجتمع مثل الامارات يضم ناطقين بلهجات عربية مختلفة يفضل فيه الحديث باللهجة البيضاء لأن الجميع يفهمها.
اللهجة المحلية متلازمة مع البرامج التراثية
الإعلامي محمد يوسف في تلفزيون نور دبي يقول: في كثير من الأحيان أستخدم اللهجة البيضاء لضمان متابعة شريحة أعرض من الجمهور المتابعين وإيصال المعلومات التي أطرحها في برامجي لأكبر عدد من الناس، خاصة وأن الكثير من الجاليات العربية تعيش بيننا وعلى أرضنا.
وأحبذ أن يتحدث المذيع باللهجة البيضاء، أما في حال كان برنامجه تراثيا أو شعبيا فيفضل التحدث بالمحلية العميقة، وقد تتعمد بعض إدارات البرامج أن يتحدث مذيعوها باللهجة المحلية بغرض تقديمها وتوضيحها للجاليات المقيمة وتعليمهم ثقافة الإمارات بشكل عام، وللحفاظ على الهوية الإماراتية بشكل خاص.
وقال: عن نفسي أدخل الكثير من التحسينات على لهجتي الإماراتية مستخدماً ما يسمى باللهجة البيضاء أثناء حديثي مع الناس، وفي العمل مع زملائي العرب من الجنسيات المختلفة، وقد أستخدم أحيانا لهجاتهم المختلفة، لأن البعض قد لا يفهم لهجتي المحلية خاصة إذا اشتملت على مفردات من البيئة الإماراتية الأصيلة، بينما أراها أنا عادية جدا..
وفي الغالب يطلب مني بعض الأخوة العرب أن أعيد كلامي على مسامعهم لأنهم لم يفهموه بشكل جيد، أما الأنكى من ذلك فهو أن تُحدث بعض المفردات من البيئة الإماراتية التباساً لدى الطرف الآخر لاختلاف معنى الكلمات بين البيئات العربية، مثل كلمة (يعطيك العافية) هي كلمة كثيرا ما يستخدمها الإماراتيون وتدل على الاستحسان والدعاء بالخير..
بينما تعني في دول أخرى مثل المملكة المغربية الضد أي دعاء على الشخص بالموت. من هنا يتطلع المذيع إلى إيجاد لهجة يفهمها أكبر شريحة من المشاهدين.