قبل خمسة وعشرين سنة، وفي مطلع شهر نوفمبر من عام 1989، سقط ذلك السور الذي قسم مدينة برلين منذ بنائه عام 1961 إلى برلين غربية وبرلين شرقية. وكذلك سقط في الوقت نفسه، الستار الحديدي الذي شطر القارّة الأوروبية إلى «أوروبتين»، غربية رأسمالية وشرقية اشتراكية. وفي كل الحالات، كان سقوط جدار برلين بمثابة منعطف حاسم في تاريخ ألمانيا الحديثة، وأبعد من ذلك في تاريخ القارة القديمة، أوروبا، بل وفي التاريخ العالمي كلّه.
ومن بين الكتب الجديدة التي صدرت بمناسبة مرور 25 سنة على سقوط جدار برلين، عمل الكاتب الألماني بيتر شنايدر: «برلين الآن: المدينة بعد الجدار». ويكرّس بيتر شنايدر الصفحات الأولى من هذا العمل للحديث عن تاريخ مدينة برلين والأهمية التي اكتسبتها عبر مسارها التاريخي..
وفي ظل مختلف الأنظمة التي مرّت عليها. والوقوف طويلاً عند تاريخها في القرن العشرين تحديداً، حيث غدت بمثابة «مركز اهتمام العالم أجمع». ومنها انطلقت حربان كونيتان، الأولى عام 1914 حيث كانت تسود الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، والثانية عام 1939 في ظل العهد النازي.
ولعبت برلين دوراً رئيساً في اندلاع حربين كونيتين وتقسيم العالم، لكنها غدت اليوم «حاضنة تربوية» لكيفية قبول الآخر المختلف، وفقا لما يراه المؤلف، مبيناً أنها كانت بمثابة «خط الجبهة الأول» بين المعسكرين اللذين سادا العالم خلال الفترة المعروفة بحقبة «الحرب الباردة»؛ أي المعسكر الغربي، الرأسمالي، الذي كانت تتزعّمه الولايات المتحدة الأميركية، والمعسكر الشرقي الاشتراكي، وطليعته الاتحاد السوفييتي السابق.
وفيما هو أبعد من الواقع السياسي الذي كرّسه الجدار في القارّة الأوروبية، يشرح المؤلف أن ذلك الحاجز الإسمنتي المسلّح كان «يتعرّج ويتلوّى» تبعاً للمسار الذي فرضه توزيع شوارع المدينة، وبالتالي غدا بمثابة «الرمز الملموس والمعاش يومياً» لواقع تقسيمها. تتم الإشارة في هذا السياق إلى أنه بعد خمسة وعشرين سنة من سقوط جدار برلين «لا تزال آثاره قائمة في الرؤوس».
«المدينة، برلين، بعد الجدار»، هي بالتحديد برلين اليوم التي يقدّم المؤلف صورة لها في مسارها الجديد منذ ذلك اليوم في شهر نوفمبر 1989 حتى الآن. إنه يشرح «ما جرى في برلين» والصورة التي وصلت إليها.
والكتاب ثري بـ «اللوحات» عن كل ما يتعلّق بالحياة في برلين اليوم، نهاراً وليلاً، حيث يصفها المؤلف بـ «المدينة الساهرة». هذا مع الحرص الواضح على الابتعاد عن أية مقاربة إيديولوجية من أي نوع.
ما يؤكّده المؤلف هو أن برلين اليوم بعد مسار استمرّ خمسة وعشرين سنة منذ سقوط الجدار استعادت عافيتها، وعادت من جديد لتكون «مركز جذب حقيقي» لأعداد كبيرة من البشر من سائحين وفنانين وأدباء ورجال علم وتكنولوجيا وخبراء معلوماتية «يابانيين» وغيرهم . لكن أيضاً، وخاصّة، لجموع من الشباب الذين قصدوا المدينة من مختلف مناطق العالم حيث تستهويهم حياة الليل المرحة.
وعلى أساس الصورة التي يرسمها المؤلف لواقع المدينة اليوم، لا يتردد في القول إن برلين غدت «عاصمة المبدعين في عالم اليوم الذين يؤمّونها من مختلف أصقاع العالم». لكن بالمقابل لا يتردد أيضاً في التصريح أنها لا تملك مع ذلك «تاريخ روما»، ولا «جمال باريس». يضاف إلى هذا برودة مناخها وسماؤها الملبّدة بالغيوم لفترة قد تمتد إلى ثمانية أشهر في السنة.
ومن السمات الرئيسة الأخرى التي يتم التأكيد عليها في هذا الكتاب أن هذه «المدينة المزدهرة»، غدت اليوم «مدينة التنوّع الإثني والتنوّع الثقافي»، حيث يتعايش «الألمان والترك والعرب واليهود». ويعتبر هذا بمثابة تجسيد لجملة كان قد قالها الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي: «إن جميع البشر الأحرار وفي أي مكان يعيشون هم من مواطني برلين».
وفي برلين ما بعد الجدار، يتعايش اليوم «سلمياً» الروس والأميركيين.. وعلى ضوء مثل هذا الواقع يرى بيتر شنايدر أن برلين تمثل اليوم «حاضنة تعليمية تربوية» لكيفية قبول الآخر، المختلف، ولكيفية جني أكبر قدر مكن من الفوائد من «مختلف أنماط العيش»، وليس الانكفاء والتقوقع حول معطيات «العرق أو المعتقد الإيديولوجي أو اللون السياسي».