حالة من الجفاء والعزلة، تقبع فيها مؤلفات تراثية بارزة، تحوز قيمة ركيزية في بنية الثقافة والادب العربيين. فها هي كتب مهمة، مثل: "كلية ودمنة" و"الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" لابن المقفع.. "الحيوان" و"البخلاء" و"البيان والتبيين" للجاحظ.. "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني.. و"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. وغيرها الكثير من المؤلفات التراثية، التي اصطلح المثقفون على تسميتها "أمهات الكتب"، تبدو، حاليا، وكأنها جُزر مهجورة تبحث عن زائر!
ولا شك أن لهذه الحال جملة مفاعيل ونتائج خطرة، مصيرها ان تؤثر على البنية العصرية للثقافة العربية، جراء تشكل ثغرة أو هو بالاحرى، تفصل الاجيال الشابة عن هذه الدرر الفكرية. ما يعني بالتالي، عدم تزودها بجرعات فكرية تراثية مهمة، تشكل عماد الادب والثقافة، وتصنف على انها الاجدى والاقوم والانسب لتكون رفيق ومنهل القراء والمثقفين، في كل عصر وأوان عربيين.
تُعرف أمهات الكتب في الثقافة العربية، بالمؤلفات التي تمتلك شهرة كبرى، وأصبحت مرجعا في مجال أو علم معين، يرجع إليه الباحث والمتخصص في هذا العلم على مدى أجيال، وهي أعمال ينظر إليها المجتمع الثقافي بإجلال وتقدير، حتى وإن كان معنيون كثر، يرفضون بعض ما جاء فيها من أفكار أو حقائق، ولكنها تحتل مكانة متميزة داخل الوسط الثقافي، خاصة لدى المتخصصين..
ورغم أنها ذائعة الصيت، وربما مر عليها الجميع خلال مراحل الدراسة كمجرد أسماء لأعمال تراثية نوعية، إلا أن جمهور القراء، حاليا، لا يقبل عليها بصورة مباشرة، وهو ما يظهر بوضوح من خلال قوائم الكتب الأكثر مبيعا، التي تُصدرها المكتبات ودور النشر بصورة دورية.
التراث العربي
يصنف الكاتب والناقد الأدبي، الدكتور يوسف نوفل، القضية في خانة الأزمة الثقافية. ويشرح رأيه: "نعاني أزمة في هذا الشأن، إذ لا نجد من الشباب توجها للرجوع إلى أمهات الكتب من المصادر التراثية التي ترصد ذخائر الفكر العربي التراثي القديم..
ولم يعد هناك من يلتفتون إلى هذا الجانب الثري من تراثنا، باستثناء الدارسين نظرا لاضطرارهم إلى الرجوع إلى تلك الأمهات في بحوثهم ودراساتهم، في مرحلتي الماجستير والدكتوراه".
ويتابع نوفل: " إنهم غالبا ما ينصرفون عن النظر في تلك ( الكتب الأمهات)، بعد فراغهم من إعداد أطروحاتهم لنيل الدرجات العلمية. كما أن طلاب الجامعات في مرحلة الليسانس لا يرجعون إلى أمهات الكتب، ذلك بفعل تقصير منهم ومن أساتذتهم أيضا. وهذا غريب، خاصة وأن هذه المرحلة الدراسية والعمرية، هي الفرصة الوحيدة لتعريف الشباب بالتراث العربي العريق، الذي تضمه المكتبة العربية التراثية".
ويضيف الناقد المصري: "من العجيب أن من يقدر أمهات الكتب هم المستشرقون والأجانب الذين شهدوا بأهمية أمهات المصادر العربية.. تلك التي أثّرت في بناء النهضة الأوروبية الحديثة".
وحول سبل تحفيز الشباب للإطلاع على أمهات الكتب، يؤكد "نوفل" أن هناك سبلا عديدة لإغرائهم، وأولها: إعداد مختصرات لتلك الأمهات تسهل تداولها بين الشباب، ثانيا: أن تنظم المؤسسات الثقافية مسابقات مرصود لها جوائز مغرية وتمنح لمن يلخص كتابا من تلك الأمهات، أو لمن يؤدي فيها امتحانا، ثالثًا: الاهتمام بتدريس تلك المظاهر في أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية في الجامعات العربية.
ثقافة عامة
يُشير الكاتب أحمد سعيد، صاحب "دار الربيع للنشر والتوزيع"، إلى أن أمهات الكتب الفعلية التي تستحق هذه التسمية، لم يعد هناك من يُقبل على قراءتها من الشباب، موضحا أن الشباب مهتم أكثر، بأعمال أدبية قديمة، ولكنها ليست بقدم أمهات الكتب.
ويوضح وجهة نظره: "فوجئت، أثناء مشاركتي في معارض الكتاب، وآخرها معرض الإسكندرية للكتاب، أن الشباب يبحث عن أعمال مصطفى محمود وعبد الوهاب مطاوع ونجيب محفوظ، وأن عددا قليلا جدا هو الذي يبحث عن أمهات الكتب لبديع الزمان الهمذاني..
وغيره، ممن تصنف مؤلفاتهم بين (أمهات للكتب) في مختلف المجالات والتخصصات. كما أن عددا قليلا هم من ينظرون إلى هذه المؤلفات كنوع من الثقافة العامة، ويهتمون بقراءتها. وبطبيعة الحال، فإن كلامي هذا ينطبق على ما يتعلق بالثقافة والأدب، وهو ما يحتمل أن يختلف عن وضع أمهات الكتب التي تدخل في إطار الدين، فربما تكون لها سوق أكثر رواجا".
اما عن سبب عزوف الشباب عن الإطلاع على أمهات الكتب، فيقول سعيد: "الشباب لا يسمعون عن هذه المؤلفات إلا في الكتب المدرسية، التي تعرضها بصورة سيئة تجعل الطالب يكره أن يبحث عنها، في ما بعد، ليستزيد منها. فالكتاب المدرسي يشوه كل ما هو جميل.
ولا بد من أن يهتم أدباء وأساتذة في تقديم هذه الأعمال بصورة مشوقة في الكتب الدراسية، تشجع الشباب في ما بعد، للبحث عنها واقتنائها". ويلفت أحمد، إلى أن المكتبات العامة والمعاهد الأزهرية، تحرص على عرض هذه الأعمال؛ لأن الأمور تسير بشكل إداري من دون أن يكون هناك إقبال من القراء عليها، بينما المكتبات الخاصة يحكمها العرض والطلب.
أهمية كبرى
يؤكد الشاعر والكاتب الجميلي أحمد، عضو اتحاد الناشرين في مصر، أن جمهور القراء يعزف عن قراءة الكتب العادية، وليس عن أمهات الكتب فقط.
ويوضح رأيه: "للأسف الشديد، اقتصرت قراءة أمهات الكتب على الباحثين والمتخصصين. ولا بد من الشارة في هذا الصدد، إلى أن لهذا نتائج خطيرة. إذ إن لاطلاع الشباب على أمهات الكتب أهمية كبرى تتمثل في بناء ثقافة الشباب، حيث إن الموروث العربي يعد أساسا لبناء الثقافة في المجتمع. وبناء على ذلك فلا أحد يستطيع أن يبني بيتا من دون أساس.
أعمال معاصرة
تجد الكاتبة الشابة، شيماء زايد، أن أمهات الكتب المتخصصة في بعض المجالات، تحتاج إلى باحثين ومتخصصين؛ لذلك لا يقبل على قراءتها سوى من لهم علاقة بهذا التخصص، لكن هناك أمهات الكتب ذات الصبغة والمضمون العام الذي يبتعد عن طابع التخصص. فتلك تنجذب إليها عامة الناس..
وهي في الأغلب الأعمال المتعلقة بالأدب، فكثير من غير المتخصصين يطلعون عليها، وتضيف شيماء: "القاعدة هنا أنه لا قاعدة.. فهناك شباب يكسر ما ذكرناه من قبل، ونجده مُقبلاً على القراءة من هذا القبيل، بشكلٍ عام، سواء لأعمال معاصرة أو تلك التي تصب في نطاق تخصصه أو في غير ذلك، وكذلك الأعمال القديمة ما اصطلح الناس على تسميتها "أمهات الكتب".
وتشدد شيماء على أن هناك من يرى السواد الأعظم من الشباب، في الوقت الحالي، ينجذب إلى الكتب المعاصرة. وحول دور المكتبات في عرض أمهات الكتب لجذب القراء أو للفت نظر القارئ إلى هذه الأعمال تقول: "لم أجد أن هناك مكتبات تحرص على عرض أمهات الكتب على الرفوف الخاصة بها ليراها القراء، إلا في ما ندر، ذلك من خلال طبعات حديثة لأعمال أدبية قديمة، مثل : كليلة ودمنة".
أحد إفرازات أزمة الثقافة المجتمعية العربية
يجد نقاد ومثقفون عديدون، في العالم العربي، أن من بين أبرز التحديات التي تواجه إقبال الجمهور على أمهات الكتب، حالة عدم الاهتمام بالثقافة المجتمعية بشكل عام، إذ تنظر الجهات المتخصصة في دول عربية كثيرة، إلى الثقافة بجوانبها كافة، على أنها من الكماليات ومن عناصر الترفيه، ولا تولي لنشر الثقافة والمعرفة، الاهتمام اللازم.
وهكذا تبرز قضية عدم الإقبال على قراءة أمهات الكتب، كإفراز من إفرازات الأزمة الثقافية العامة. فمنذ البداية يغيب عن المدارس والتعليم فكرة التثقيف العام، بعيدا عن مناهج الدراسة التي هي في معظمها جافة، وتنفر الطلاب من الاطلاع على أي كتاب، فيظل الطالب منذ المراحل التعليمية الأولى، وحتى حصوله على الشهادة الجامعية، بعيدا عنها ولا يمسك بيده كتابا ما، خارج نطاق دراسته.
وفي السياق نفسه، يرى متخصصون أكاديميون، أنه وفي الفترة الأخيرة، باتت الشعوب العربية أكثر انشغالاً بالعدالة الاجتماعية والأخبار السياسية والبحث عن لقمة العيش، فكيف سيترك أي من الأفراد كل هذا ليلتفت إلى قراءة مؤلفات قديمة، فهل يعقل مثلا، أن يستقطع من راتبه لشرائها. أو أن يمنحها وقتا، على حساب وقته مع عائلته او الفترة التي يقضيها للحصول على رزقه.
مقرر دراسي رسمي في المرحلة الابتدائية
يطرح أدباء وكتاب عرب، جملة مقترحات وآراء يجدونها فاعلة تمهد إلى حلول نوعية في التصدي لهذه المشكلة الثقافية. ومن بين السُبل المحفزة التي يجدونها حيوية، ضرورة أن تقدم هذه الكتب للأجيال الجديدة، وهم في سن مبكرة. وانطلاقا من هذا الأساس، يشدد هؤلاء على أهمية أن تعنى وزارة التربية والتعليم، ومعها جميع الجهات المعنية، في المجتمعات العربية، بجعل تدريس أمهات الكتب مقررا رسميا في المرحلة الابتدائية.
عزوف القراء
تضع دراسات وتحليلات فكرية ثقافية، معنية بدراسة مستويات الثقافة والقراءة في المجتمعات العربية، أن هناك مشكلة جوهرية تتمثل في عزوف القراء العرب، وخاصة الشباب، عن القراءة، ويشمل ذلك قراءة أمهات الكتب. كما تصل حدود المسألة في تشعباتها، إلى درجة أن هناك الكثير من الشباب، حاملي الشهادات العليا، لا يعرفون مشاهير الكُتاب المعاصرين..
ويفتقرون إلى أدنى مستوى من الثقافة العامة. وفي مقابل بيانات هذه الدراسة، تبرز آراء تأكيدات شبابية ومؤسساتية معنية، تؤكد أن الشباب العربي، وحتى لو لم يكن يقبل على أمهات الكتب، يعتني بالقراءة لكتاب بارزين، ليسوا من الاسماء التي يضمها التراث، بل معاصرون، أمثال: نجيب محفوظ، يوسف إدريس، يوسف السباعي، توفيق الحكيم.