كان هناك الكثير من التركيز على السياسة النقدية في أعقاب الجائحة وفي ظل حرب روسيا وأوكرانيا، وهو أمر مفهوم، لكن يبدو أن الرياح تغير الدفة، ذلك إذا كان لنا أن نستشف أي إشارة من الاضطرابات الأخيرة في أسواق السندات. عموماً، الأمر يستدعي تركيزاً جديداً على السياسة المالية، ومعه إعادة لصياغة الأفكار الخاصة بها.
فاستجابة لتداعيات فيروس كوفيد والحرب، كانت الحكومات مدعوة للتصرف كـ«جبهة التأمين الأولى» لمواطنيها، وهو ما أضاف عبئاً مالياً ثقيلاً إلى مستويات الديون التي كانت مرتفعة بالفعل.
وبالنظر إلى المستقبل، هناك نفقات كبيرة متعلقة برعاية الشريحة السكانية الأكبر سناً في الدول المتقدمة اقتصادياً، في حين تحتاج الاقتصادات الناشئة والنامية إلى استثمارات عامة كبيرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وفوق ذلك تعزيز الإنفاق الدفاعي المتزايد وسط تصاعد التوترات الجيوسياسية؛ ثم نضع فوق ذلك هذه الصورة عودة السياسات الصناعية ذات الأسعار الباهظة.
ولا يمكننا أيضاً أن نتجاهل الموارد العامة اللازمة للتحول المناخي. وبتجميع كل هذه العوامل، فإننا نقدر أن الإنفاق الإضافي فوق المستويات الحالية يمكن أن يتجاوز 7% من الناتج المحلي الإجمالي (6 تريليونات دولار) بحلول عام 2030 في الاقتصادات المتقدمة، ويتجاوز 8% من الناتج المحلي الإجمالي (5.3 تريليونات دولار) في اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
وبكل المقاييس، هذه أرقام ضخمة.
وفي الأيام الذهبية التي شهدت أسعار فائدة منخفضة لفترة أطول، كان بوسع الحكومات تمويل إنفاقها من خلال الاقتراض منخفض التكلفة، أما في ظروف اليوم، حيث أصبح من الصعب سياسياً خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب، فإن الإنفاق الممول بالاستدانة ربما لا يزال مغرياً، غير أنه سيكون خطأً فادحاً، حيث يضع الديون على مسار غير مستدام في ظل الارتفاع الحاد لتكاليف الاقتراض.
ومع ارتفاع مستويات الديون إلى مستويات غير مسبوقة، وارتفاع أسعار الفائدة على مدى أطول، وتوقعات النمو عند أضعف مستوياتها خلال عقدين من الزمن، فإن ضبط النفس مطلوب، حتى بالنسبة لمصدري العملة. والواقع أن الولايات المتحدة تعاني من أحد أعلى معدلات العجز في ميزانيتها، والذي بلغ 8% هذا العام، ومن المتوقع أن يصل في المتوسط إلى 7% على مدى الأعوام القليلة المقبلة.
وبهذه المعدلات، سينمو صافي مدفوعات الفائدة الحكومية العامة في الولايات المتحدة من 8% من الإيرادات (486 مليار دولار) في عام 2019 إلى 12% (1.27 تريليون دولار) في عام 2028.
ونظراً لوضع الولايات المتحدة المركزي في دوائر التمويل العالمية، فإن ضبط نظامها المالي يشكل أهمية قصوى بالنسبة لها وللآخرين، الذين يتضررون من ارتفاع أسعار الفائدة وضعف العملات. لكن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي ينبغي لها أن تستجيب لهذه النصيحة. ورغم اختلاف التفاصيل، فإن العديد من مبادئ إعادة صياغة السياسة المالية هي قواسم مشتركة بين الجميع.
أولاً، يتعين علينا إعادة النظر فيما تستطيع الحكومات أن تفعله، إذ لا يمكن أن تكون الحكومات الملاذ الأول في وجه جميع الصدمات. لقد بلغ متوسط تدابير دعم الجائحة 23% من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة و10% من الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة. وأنفقت الاقتصادات الأوروبية في المتوسط 2% من الناتج المحلي الإجمالي لحماية الأسر والشركات من أزمة الطاقة التي اندلعت العام الماضي. ولا يملك سوى عدد قليل من البلدان القدرة على تكرار هذه المساعي.
وبالنظر إلى عالم اليوم الأكثر عُرضة للصدمات، فلابد من إعادة بناء أرصدة المصدات المالية المستنفدة وتوسيع نطاقها. وينبغي لأي استجابات مستقبلية للصدمات أن تستهدف الفئات الأكثر ضعفاً بشكل أفضل وأن تكون مؤقتة بطبيعتها.
وبالنسبة للعديد من الاقتصادات المتقدمة التي تعاني من شيخوخة السكان، فإن إصلاحات الاستحقاقات أمر لا مفر منه. ويتعين على العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية أن تعمل على تقليص نطاق الشركات المملوكة للدولة، والتي ترهق الخزينة العامة وتفشل في كثير من الأحيان في العمل بكفاءة وفاعلية. أما عن السياسات الصناعية، فيجب أن تكون محددة زمنياً، وموجهة بشكل جيد لمعالجة إخفاقات السوق، ومنظمة بشكل جيد لمنع السعي وراء الريع وخسارة المنافسة. ولنكن صرحاء، فبالنسبة للعديد من السياسات الصناعية، لا يتم الوفاء بهذه الشروط.
ثانياً، يجب أن تتناسب الإيرادات مع المصروفات، وهنا تتمثل إحدى الوسائل في وضع حد أدنى للمنافسة الضريبية من أجل التخفيف من حدة الانهيار الشديد. ومن الممكن أن يؤدي الالتزام بحد أدنى من ضريبة الشركات بموجب الركيزة الثانية من الاتفاقية الإطارية الشاملة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى تعزيز إيرادات الضرائب على الشركات عالمياً بأكثر من 6%.
ولابد أيضاً من فرض الضرائب على الثروة بشكل فعال من خلال سد الثغرات في المكاسب الرأسمالية والضرائب العقارية، وتنفيذ ذلك على نطاق شامل. كما تحتاج اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية بشكل عاجل إلى تنمية قاعدتها الضريبية.
وتشير تقديراتنا إلى أن هذه الدول بمقدورها زيادة نسب الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 5 إلى 8 نقاط مئوية، أما في الاقتصادات منخفضة الدخل فستكون بحدود 7 إلى 9 نقاط مئوية. كذلك، يجب أن يكون تسعير الكربون مطروحاً للنقاش، حيث يمكن لهذه المسألة تحفيز التحول المناخي وتغطية تكاليفه مع دعم الأطراف الأضعف. والأهم من ذلك، أن البلدان بحاجة إلى الاستثمار في التدابير التي تعزز النمو وتساعدها على تغطية تكاليفها، مثل التعليم في السنوات الأولى، والاستثمار في البنية التحتية الحيوية، وتحسين الحوكمة.
ثالثاً، هناك حاجة لتقوية وتعزيز الأطر المالية، فهناك أكثر من 100 دولة لديها قواعد مالية لكن الانحرافات عن المسار متكررة.
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يتمكن سوى عدد قليل من البلدان من احتواء الديون منذ الأزمة المالية العالمية، إذ يتطلب ذلك خططاً ذات مصداقية، وأن تتكامل بشكل أفضل مع الميزانيات السنوية وتركز على أهداف الإنفاق، كما يجب أن تكون قادرة على الاستجابة للصدمات ولكن بآليات واضحة لتصحيح أي حالات لعدم الامتثال، ويمكن للمجالس المالية المستقلة أيضاً أن تعمل على تعزيز الضوابط والتوازنات.
هذه أوقات صعبة على صنّاع السياسات. وفي خضم الصدمات المستمرة، فإن الضغوط من أجل تقديم الدعم الاجتماعي والتحول الهيكلي هائلة بالفعل. ويعني القيام بذلك تحديد أولويات الإنفاق الكفيلة برفع النمو إلى جانب إجراء حوار جاد حول زيادة الإيرادات لضمان مسارات مستدامة لسداد الديون، وبالطبع فإن ترتيب الأوضاع المالية أمر ضروري لضمان قدرة الحكومات على تلبية احتياجات شعوبها.