سادت حالة من القلق الشديد الأسواق منذ ما يقل عن شهرين... كان قلقاً حقيقياً؛ فمن ذا الذي سيشتري السندات الحكومية الأمريكية؟ هل نقف على شفا إضراب للمشترين من شأنه زعزعة استقرار الأسواق العالمية؟

من الآمن حالياً القول إن الإجابة عن هذين السؤالين هي بالنسبة للأول: الكثير من الأشخاص في واقع الأمر، والثاني: النفي بلا. لقد كان للقلق في شأن كيفية استيعاب المستثمرين للكم الهائل والسريع من سندات الخزانة الأمريكية حديثة الطرح ما يبرره حينها، وما زال أخذه في الاحتساب منطقياً في الوقت الراهن، ومن المُرجح أن تبقي متطلبات الاقتراض الآخذة في الازدياد للحكومة الأمريكية الأسعار منخفضة قليلاً، وبذلك ستكون العائدات أعلى قليلاً مما كانت لتسجله لولا هذا الوضع.

وفي حين أن هذا الموضوع سيظل قضية ساخنة لأعوام مقبلة، يرى ستيفن ميجور، كبير الخبراء الاستراتيجيين للسندات لدى «إتش إس بي سي»، أن «السندات ليست كالبطاطا»، وهو الوصف الذي دائماً ما يؤكده. والمعادلة ليست بسهولة عبارة «المزيد من السندات يعني أسعاراً أقل». قليلون فقط، على سبيل المثال، يضطرون إلى استهلاك البطاطا لأسباب تنظيمية، كما أن الدرنات ليست مخزناً جيداً للقيمة على المدى الطويل.

وبغض الطرف عن إضراب المشترين، تعيش السندات فترة مذهلة، وكان نوفمبر أفضل شهر لهذه الفئة من الأصول في الولايات المتحدة منذ قرابة 40 عاماً، وهذه الظروف دفعت عائدات سندات الخزانة الأمريكية القياسية لأجل 10 أعوام لأن تهبط من 5 % في منتصف أكتوبر إلى 4.3 % أو نحو ذلك في الوقت الراهن. وفي المقابل، حفز ذلك أكبر قفزة شهرية للأسهم العالمية منذ الشهر ذاته في سنة 2020.

لقد جاءت قفزة السوق نتيجة مباشرة لشك راسخ لديها في أن المصارف المركزية ستعد تراجع التضخم إشارة للبدء بخفض أسعار الفائدة في الربيع المقبل، بعدما كانت متيقنة من بقاء الفائدة مرتفعة مدة أطول، ويبدو هذا مُبالغاً فيه إلى حد ما، ولكن من الحمق أن يقف الاستثمار في وجه هذا الطوفان في الوقت الراهن.

وقالت كارن وارد، كبيرة الخبراء الاستراتيجيين للسوق في أوروبا لدى «جيه بي مورغان لإدارة الأصول»: «لن ترتفع عائدات سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 أعوام إلى 5 % من جديد»، وتابعت: «إن كنت فوّت فرصة 5 %، فلا تفوت فرصة 4.5 %، والسندات تحتل قمة قائمة أمنيات عيد الميلاد في منزلي»، إنها تبدو أوقاتاً سعيدة لدى عائلة وارد!

وذكر مارك كابانا، مدير استراتيجية الفوائد الأمريكية لدى «بنك أوف أمريكا»، في إحاطة منذ أيام، أن المستويات القياسية المُحتملة لطرح السندات الحكومية الأمريكية في العام المقبل «مفزعة»، ولكنه «متفائل بحذر»، وقسّم كابانا مشتري السندات إلى عدة فئات، وخَلُصَ إلى أن كل منهم سيقع من جديد في حب هذه الفئة من الأصول في سنة 2024.

الفئة الأولى مديرو الصناديق، الذين عادة ما يشترون السندات لموازنة الأخطار في أسواق يُفترض أنها أكثر نشاطاً، ولم تسر الأمور على ما يرام في سنة 2022 المرعبة، حينما انخفضت الأسهم والسندات معاً. وجاءت هذه الاستراتيجية بنتائج عكسية في بادئ الأمر هذا العام، حينما راهن مديرو الأصول على أن 4 % ذروة العائدات، واليوم، وأخيراً، تقترب هذه الحقبة «المحبطة» من نهايتها، ويعتقد كابانا أنهم من المرجح أن يظلوا راغبين في دخول السوق.

ومن المُرجح أن تكون المؤسسات الاستثمارية في الخارج، وخاصة في المملكة المتحدة وأوروبا، أكثر حماساً، بعدما تحوّلت تكاليف التحوط ضد أخطار العملات لمصلحتهم على نحو ملحوظ، وتُعد المصارف من بين المشترين المتحمسين، مع تطلعها إلى بناء احتياطات ضد الصدمات.

وفي الوقت ذاته في أوروبا، هناك مصدر مُحتمل لدعم السندات يتم تجاهله على نطاق واسع، وهو ناتج عن حكم صادر عن المحكمة الدستورية الألمانية يقضي بتجميد قدر من الإنفاق المالي الإضافي. وحتى اليوم، فشل الحكم في أن يسفر عن أي شيء قريب من حالة القلق التي تصيب السوق عند كبح الإنفاق في الولايات المتحدة، وتنطوي الرهانات على إيجاد ساسة برلين سبيلاً ما على نحو حصيف وعملي.

ومع ذلك، يأتي الحكم بوقت يتعثر فيه الاقتصاد الألماني، وينذر ذلك، وفقاً لروبرت ديشنر، كبير مديري المحافظ لدى «نيوبرغر بيرمان»، بأن «أوروبا ستتباطأ على نحو أكبر». ونتيجة لذلك، «قد يضطر المركزي الأوروبي لأن يكون أول المصارف المركزية الكبرى خفضاً للفائدة». ولا عجب في عودة عائدات السندات الحكومية الألمانية القياسية للانخفاض إلى مستوياتها المتدنية المُسجلة في الصيف.

والمشكلة على المدى القصير أن الوقوع في حب السندات من جديد ينطوي على مغالاة في ما يبدو، وقد أشار كابانا إلى أن بعضاً من مُستهدفاته للعائدات لنهاية سنة 2024، ناهيك عن هذا العام، أصبحت في المتناول بالفعل، ولذلك، وبينما يتوقع «بنك أوف أمريكا» خفض الاحتياط الفيدرالي الفائدة قرابة 0.75 نقطة مئوية من يونيو، تتحسّب السوق إلى خفض يقرب من 1.2 نقطة مئوية للفائدة من مايو. ومستهدف كابانا لعائدات السندات لأجل 5 أعوام في نهاية سنة 2024 يبلغ 4.15 %، وهي تسجل 4.2 % حالياً.

ولكن، على المدى الطويل، يجد المتفائلون الذين يرجحون قدرة الفيدرالي على دفع الاقتصاد نحو هبوط سلس، وذوو النظرة المتشائمة، أنفسهم مسرورين بركوب هذه الموجة، وقال مايك ريدل، مدير الدخل الثابت في المملكة المتحدة لدى «أليانز غلوبال إنفستورز»: «الهبوط السلس شأنه شأن الحصان وحيد القرن، كلاهما لا وجود له». وريدل واحد من معسكر المتشائمين، ويرى «أخطاراً كبيرة جداً بوقوع ركود». وأضاف: «نحن شغوفون بالسندات الحكومية»، وتابع: «لدينا ما يكفينا من السندات الحكومية، ونتخذ مراكز بيعية كبيرة على الائتمان كلما سمحت التفويضات».

وعموماً، من الصعب تخمين المدة التي سيسمح فيها الفيدرالي بسير الأمور على هذا المنوال. وكان المصرف المركزي سريعاً في تنبيه المستثمرين حينما عدّ أن العائدات حققت قفزة شديدة في وقت مبكر من هذا العام، ومن شأنه أن يبعث برسالة مفادها: «أوقفوا هذا»، إذا أدت الأوضاع المالية الأكثر تيسيراً في السوق إلى دفع التضخم للأعلى مجدداً، ولكن، في الوقت الحالي، يبدو المستثمرون سعداء باختبار هذا الحد، فالمشترون ليسوا بعيدين عن السوق على الرغم من كل ذلك.