ظل سوق الأسماك والخضروات في واجيما باليابان في حركة دائمة طوال 1000 عام مضت، ليقف شاهداً على المرونة التجارية، ويمثل درة التاج بشبه جزيرة نوتو. لكن اليوم، تغطي الشوارع مساحات سوداء من الرماد والركام، في أعقاب زلزال قوي وتسونامي وحرائق في بداية حزينة للعام 2024 على طول الساحل الغربي لليابان.
وتأتي الكارثة بمثابة تذكير، لكل من اليابان والعالم الخارجي، بالسبب الذي يجعل من البلاد وشركاتها، التي يزيد عمر أكثر من 30.000 منها عن القرن، على حالها تلك، وأيضاً تذكير للمستثمرين، وهم الأكثر أهمية، بالاتجاه الذين قد تسلكه اليابان وشركاتها حالياً.
ومع ارتفاع عدد القتلى جراء الزلزال الذي ضرب البلاد في أول أيام العام الجديد إلى 73 على الأقل، واندفاع المدنيين وفرق الإنقاذ العسكرية لإيجاد ناجين، تنضح نوتو بأدلة على الدمار الذي قد تحدثه الطبيعة لكل من يعيش في منطقة حلقة النار الزلزالية. وتنتشر في المنطقة سفوح جبال منهارة، ومنازل متهدمة، وطرق استحالت شرائط متعرجة، ومبنى من سبعة طوابق مُلقى على جانبه على نحو جنوني. كما تنتشر لقطات بالهواتف المحمولة للحظة أن ضرب الزلال، والسؤال الذي تطرحه هذه الأحداث المروعة: ماذا كنت لتفعل لو كل ساكن وحميد تحوّل فجأة إلى متحرك وقاتل؟
لحسن الحظ، فإن اليابان قادرة، مؤسسياً وعملياً وسياسياً، على وضع هذا التساؤل في اعتبارها لأمد طويل، بعد عودة الأفراد إلى همومهم اليومية. وكما هي الحال في كثير من الأحيان، أخضع الزلزال الذي بلغت قوته 7.6 على مقياس ريختر، الدفاعات البحرية ومعايير البنايات وخطط الإخلاء وأنظمة الطوارئ، والتجهيزات الأخرى، لاختبار قاس، ووجد أن البلد اشتدت صلابته على نحو مثير للإعجاب، من خلال خبرات مروعة جرت مراكمتها.
لكن هناك ثمن باهظ، لقاء هذا المستوى المثير للإعجاب من التأهب، المتأتي من هذه الخبرات. فقد ركزت اليابان بشدة على حماية نفسها من ضراوة الطبيعة، خاصة هذا النوع من الدمار، سواء كانت زلازل أو أعاصير أو فيضانات، بإمكانها أن تجتث سريعاً كل شيء من على وجه الأرض.
وتتخذ غريزة البقاء، التي شحذتها طريقة التفكير هذه، أشكالاً عدة، لكن يتمثل أبرزها في تطور الشركات اليابانية، باعتبارها أداةً للبقاء. وتؤَسَس الشركات، الكبير منها والصغير، بهدف الربح، بطبيعة الحال، لكنها أيضاً بمثابة وحدات قياس مرئية للاستمرارية، في عالم غير مستقر. وهناك سبب وراء تمتع اليابان بشركات يزيد عمرها عن قرن من الزمان، مقارنة بأي دولة أخرى، وبفارق مهول، فطول الأجل غاية في حد ذاته للشركات، ولذلك، فالبقاء هو الشغل الشاغل للشركات.
وقد شكّلت حتمية البقاء، في العقود الأخيرة، صنع القرار في الشركات، وفي آلاف الشركات المُدرجة في اليابان على نحو أوضح. وقد فعلت ذلك بطرق أثارت حنق الجيل الأعلى صوتاً من المستثمرين، الأكثر تفضيلاً للشركات التي تمنح الأولوية لقيمة المساهمين على حساب أي شيء آخر.
وانطوت الحكمة السائدة لدى مختلف الشركات اليابانية، في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، على أن البقاء يكمن في أن تصبح أكبر بأقصى ما يمكنك وفي أسرع وقت ممكن. وقبل ذلك، صنعت الشركات لنفسها، شبكات من الملكية المشتركة للأسهم لدى بعضها البعض، بحيث تبني حماية لأنفسها من المفترسين المُحتملين. وفي التسعينات، بعد انهيار الفقاعة في البلاد، بدأت الشركات حقبة طويلة من المراكمة، على أساس الإيمان بأن المرونة ستنمو من داخل الخزائن وبالاعتماد الأقل على المصارف. وتطورت حبات السم، واستراتيجيات أخرى غير صديقة للمساهمين، بهدف إبعاد أي مخاطر تتهدد القدرة على البقاء، حتى عندما تكون هذه المخاطر هينة.
واليوم، دخلت الشركات اليابانية مرحلة جديدة، أدركت فيها الإدارات أن القدرة على البقاء تتوقف على استراتيجيات مختلفة تماماً. ويتطلب ذلك، بالنسبة للكثيرين، تغيّراً جوهرياً للسلوك. ويزداد تقبل المجموعات الكبيرة لوجوب أن تكون أصغر حجاً، فتتخلص لذلك من الأعمال غير الأساسية. وبدلاً من كونها ضماناً للدعم، يُنظر إلى الملكيات المُشتركة على أنها مصادر خطيرة مُحتملة للالتزام تجاه شركة أخرى، لذلك تُباع هي أيضاً.
ويعتبر مصرفيو صفقات ومحامون، الموجة المتنامية لأنشطة الدمج والاستحواذ، شاهداً على إدراك جديد، بعد أعوام من مقاومة الدمج، بأنها تمثّل أفضل فرصة لبقاء الشركات. أما تلك التي ترى تهديداً في وضع الإدراج ذاته، بكل ما يحمله من مخاطر ناجمة عن ازدياد تدقيق المساهمين، فتخوض صفقات استحواذ على شركات خاصة بوتيرة مذهلة.
وفي القطاع الضخم للشركات غير المُدرجة في اليابان، حيث يملك ويدير أناس تتخطى أعمارهم 70 عاماً نحو مليوني شركة، تواجه مسألة البقاء تهديداً ديموغرافياً، وينظر الآلاف منهم في بيع أعمالهم، وهو ما كان مُحالاً قبل بضعة أعوام.
لقد أسهمت الطبيعة الزلزالية لليابان في خلق عالم أعمال يتوق إلى البقاء، لكن المفاجئ، أن الشركات تبدو غير مستقرة أكثر من أي وقت مضى فيما يتعلق بكيفية تحقيقها لذلك الهدف.