يُمكن أن يكون ميل أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى «الهلوسة»، أو ببساطة اختلاق الأشياء، غريباً وأحياناً مُخيفاً. هذا ما اكتشفته سلسلة متاجر كُبرى في نيوزيلندا بالطريقة الصعبة ففي العام الماضي، بعدما أطلقت سلسلة متاجر «باك أن سيف» تطبيق مُحادثة يقترح وصفات للمُتسوقين المُقتصدين باستخدام المُكوِّنات المُتبقية، أوصى تطبيق الوجبات «سيفي ميل بوت» أحد العُملاء بصُنع «مزيج مائي عطري» ليتضح أن ذلك المزيج قاد إلى إنتاج غاز الكلور، كما تعلم القانونيّون ضرورة وجوب الحذر من نتائج أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية، نظرًا لقُدرتها على اختلاق قضايا قانونية وهمية بالكامل.

ووَجَدت دراسة حديثة أجرّتها جامعة ستانفورد لإجابات ثلاثة نماذج من أحدث أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي على 200,000 استفسار قانوني أن الهلوسة كانت «مُتفشية ومُثيرة للقلق»، وحينما طُرح عليه أسئلة مُحددة يُمكن التَحَقُق من صحة إجابتها عن قضايا عشوائية من المحكمة الفيدرالية، خرج «شات جي بي تي»، التابع لشركة «أوبن إيه آي»، بنسخته الـ3.5 بهلوسات بنسبة 69 % من الحالات، بينما بلغت نسبة هلوسة نموذج «لاما 1»، التابع لشركة ميتا 88 %.

ويعد العديد من المُستخدمين هلوسات الذكاء الاصطناعي التوليدي مُجرد عيب مُزعج ويفترضون أن شركات التكنولوجيا ستُصلحه يوماً ما، بالضبط مثل رسائل البريد الإلكتروني المُزعجة، فإلى أي درجة يُمكن أن تقوم الشركات بهذا الإصلاح، هو موضوع بحوث نشطة وجدال عنيف. ويقول بعض الباحثين إن الهلوسات جزء مُلازم للتكنولوجيا نفسها؛ إذ إن أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية آلات احتمالية مُدربة لإعطاء الإجابة الأكثر احتمالاً من الناحية الإحصائية، فمن الصعب برمجة صفات بشرية مثل الحِس السليم والسياق والفروق البسيطة والمنطق، بينما يحاول المتخصصون في التكنولوجيا حل هذه المُشكلة، وَجد بعض المُستخدمين أن الخيال الذي توَلده الآلة يُشكل ميزة مُثيرة وبدؤوا استكشاف إمكاناته الإبداعية. ويقول مارتن بوشنر، المؤلف والأستاذ في جامعة هارفارد: «أنا أُحب هذه الهلوسة. إنها رائعة حينما يتعلق الأمر بالإبداع الفني».

وبصفته مؤلف كتاب «الثقافة: تاريخ جديد للعالم»، يمتلك بوشنر نظرة فريدة في الإبداع، ويقول في كتابه إن البشر على مدى آلاف السنوات ظلوا يستوعبون مُعطيات الأجيال السابقة والثقافات الأُخرى ومزجوها لتوليد مُخرجات توفيقية جديدة، فكِروا كم استعارت روما الإمبراطورية من اليونان القديمة، أو ما استخلصه عصر النهضة الإيطالي من المعرفة العربية، أو كيف تبنت اليابان الكتابة والفلسفة الصينية، أو ما استقته الثقافة الراستافارية في جامايكا من التقاليد الإثيوبية.

وكتب بوشنر، أن كل حضارة تميل إلى المُغالاة في تقدير أصالة ثقافتها لدعم ادعاءات التفوّق والهيمنة المشكوك فيهما، وقال نصاً: «تتجاهل هذه الادعاءات حقيقة أن كل شيء يأتي من مكانٍ ما، يُستخرج، يُستعار، يُنقل، يُشترى، يُسرق، يُسَجل، يُنسخ، وعادةً ما يُساء فَهمه. الثقافة إذن ما هي إلا مشروع تدوير ضخم».

إن أوجه التشابه مع الذكاء الاصطناعي التوليدي مُدهشة. نوعاً ما، تقوم آلاتنا اليوم بما كان البشر يفعلونه دائماً وهو دمج مُدخلات ثقافية مُختلفة لتوليد مُخرجات مُختلفة اختلافاً طفيفاً. ومن هذا المُنطلق، يُمكن احتساب الذكاء الاصطناعي التوليدي آلة توفيقية ثقافية ضخمة، فنظراً للاعتماد على بيانات غير مكتملة ومنقوصة، والثقة المُفرطة بالتعميم على الرغم من الخصوصيات، قد تكون الآلات في بعض الأحيان أشبه بالبشر المُعرضين للخطأ أكثر مما نتصوَر، وقد لا تكون الهلوسة مُجرد خلل خوارزمي بقدر ما هي انعكاس للثقافة الإنسانية.

يبدو كل ذلك نظرياً، فما الذي يعنيه عملياً؟ باختصار، كل شيء يعتمد على الاستخدام. يُمكن أن تكون نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي وسيلة رائعة لتعزيز الإبداع البشري عبر توليد أفكار ومحتوى جديد، وخاصة في الموسيقى والصور والفيديو، ويُمكن لهذه النماذج أن تعمل كرفيق تمرُّن مفيد جداً، ومصدر إلهام لا ينضب للمشروعات الإبداعية إذا وُجِه بطريقة صحيحة، كما بإمكانها أن تكون بمنزلة المُعادل الخوارزمي للتفكير خارج الصندوق، وكان بوشنر نفسه يُجرب استخدام برامج مُحادثة مُخصصة للتحدُث مع شخصيات تاريخية مثل أرسطو وكونفوشيوس والمسيح، استناداً إلى كلماتهم وأفكارهم، ويقول بوشنر: «يجب أن تكون هندسة الأوامر المُدخلة جزءاً من المنهج الدراسي في هارفارد».

وقد أخبرني مؤسس إحدى شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي أننا ندخل بسرعة عصر «الوسائط التوليدية». وأضاف إن «الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي خفضت تكلفة التوزيع إلى صفر. وحالياً، بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي، تقترب تكلفة الإبداع أيضاً للوصول إلى الصفر»، وقد تؤدي هذه الاتجاهات إلى انفجار إبداعي، للخير أو الشر على حدٍ سواء، كما قد تُعمِّق المخاوف المُتعلقة بالمعلومات المُضللة وسرقة الملكية الفكرية.

وعلى الرغم من كون تلك الأنظمة مُثيرة للإعجاب باحتسابها كاتبة خيالية، فإنه حينما يتعلق الأمر بالكتابة الواقعية الموثوق بها فلا يزال أمام الذكاء الاصطناعي التوليدي طريق طويل لقطعها، وهذا لا بأس به طالما نستخدمه أداة لتعزيز القُدرات البشرية بدلاً من تصوره باحتسابه عُنصراً بإمكانه استبدال كل طاقة المُعالجة البشرية.