في حال لم تسمع، أو اخترت تجاهل مثل هذه الأشياء عمداً، فقد عادت «بيتكوين» بقوة، حيث قفزت العملة المشفرة الأصلية، التي لا تزال الأكبر، إلى مستويات قياسية مرتفعة، لتتضاعف قيمتها بأكثر من ثلاث مرات في خلال عام واحد. وتتمتع عملات مُشفرة أخرى، مثل «إيثيريوم» و«دوج كوين»، التي يحبها إيلون ماسك، بمكاسب هي الأخرى، وتشير التقديرات إلى أن قيمة هذه السوق تربو على 2.7 تريليون دولار للمرة الأولى منذ أكثر من عامين.
ومن الغريب مع ذلك هو أنك ربما لم تسمع عن هذا بالفعل، حيث لا يثور صخب كبير هذه المرة عن العملة التالية، التي «ستذهب إلى القمر»، أو عن كثير من الحالات، التي يشتري فيها مالكو هذه العملات سيارات لامبورغيني، كما لا تنشر الصحف مقالات كثيرة عن مدى الثراء، الذي أصاب الجميع من حولك وباستثنائك أنت. وأفادت «غوغل تريندز» بأن حركة البحث حول العالم عن كلمتي «بيتكوين» و«كريبتو» قفزت بالفعل في الأيام الأخيرة، لكنها ما زالت عند نحو نصف حركة البحث المسجلة في آخر مرة وصلت فيها هذه السوق ذروتها في 2021.
عموماً، ليس ثمة صخب مثار عن العملات المشفرة في 2024، حتى الآن على الأقل، ولا يعدو الأمر كونه حديثاً خافتاً، والسبب في ذلك هو أن العوامل التي يُفترض كونها معززة لارتفاع الأسعار ليست من نوع الهوس الجامح، الذي رأيناه سابقاً، مثل الهوس بالاكتتابات العامة الأولية للعملات في 2017، أو الرموز غير القابلة للاستبدال في 2021.
الواقع هذه المرة أن ثمة المزيد من الأمور التقليدية، التي تدور في هذا الفضاء، وهي تشمل ديناميكيات العرض والطلب في الفترة، التي تسبق عملية «التنصيف» المتوقع حدوثها في أبريل، وتشهد انخفاض عدد عملات «بيتكوين» التي تُعدّن كل 10 دقائق إلى النصف عند 3.125 عملات، فضلاً عن احتمالات خفض أسعار الفائدة، وتدفق رؤوس الأموال المؤسسية إلى 11 صندوق «بيتكوين» متداولة في البورصة بعد أن حظيت بموافقة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية هذا العام.
وربما يكون لهذا العامل الأخير أكبر الأثر، حيث أشارت بيانات منصة الأصول المُشفرة «ذا بلوك» إلى تداول ما يزيد على 50 مليار دولار إجمالاً في صناديق «بيتكوين» المتداولة في البورصة. وسلطت البيانات الضوء على أن الصندوق الذي أطلقته «بلاك روك»، أكبر مدير للأصول على مستوى العالم، هو بالفعل ثالث أكبر الصناديق المتداولة في البورصة لدى الشركة وأسرعها وصولاً إلى 10 مليارات دولار. وتفيد التقارير بأن بعض من كبرى المصارف العالمية، مثل «مورغان ستانلي» و«ويلز فارغو» و«بنك أوف أمريكا»، تستعد بدورها للانخراط في التداولات المعتمدة على «البيتكوين»، ويبدو لنا هنا أن الدروس المؤلمة المستفادة من الأزمة المالية، كتفادي الأصول عالية الخطورة، قد ضُرِبَ بها عرض الحائط.
إن المشترين الذين يستخدمون الصناديق الجديدة المتداولة بالبورصة هم مستثمرون تقليديون، يرون في «البيتكوين» وسيلة لتنويع الاستثمارات، لكنهم ليسوا مؤمنين بها حقاً. قد تظن أن من يؤمنون بالعملة ليسوا راضين عن هيمنة المؤسسات المالية التقليدية العالمية على عملتهم المشفرة الفوضوية، التي يتمثل سبب وجودها في مراوغة مثل هؤلاء الوسطاء وإتاحة شكل من أشكال النقود يتسم بكونه غير مركزي، ومقاوماً للرقابة.
لكنك ستكون مخطئاً إن ظننت ذلك، فقد نشر أحد الحسابات المهتمة بالعملات المشفرة، والذي يحظى بمتابعة كبيرة على موقع «إكس»: «تنفد عملات بيتكوين من أقسام التداول خارج البورصة. لهذا نحن متحمسون للغاية. ويبدأ الخوف المؤسسي من فوات الفرصة حيث يتوقع البعض أن تبلغ العملة 100 ألف دولار قريباً». وقال بيتر ماكورميك مؤخراً على بودكاست «ما فعلته بيتكوين»: «أصبحت مشجعاً للصناديق المتداولة في البورصة، لأن كل من لديه نوع من أنواع الانكشاف عليها صار مُحفزاً ليكون عضواً بفريق البيتكوين». وأضاف: «دعونا نقول إنه من الجيد أن ترى لاري فينك، الرئيس التنفيذي لدى بلاك روك، في صفك. هذا هو الأمر الرائع بشأن البيتكوين، فكافة الحوافز تصطف مع بعضها بعضاً».
هو مصيب بالطبع، فعندما يكون شيء ما مدعوماً بالاعتقاد فيه، فأنت بحاجة لأكبر عدد ممكن من المعتقدين، بيد أن هذا لا يسلط الضوء على ما يحفز الناس فعلاً، ليكونوا منتمين لـ«فريق البيتكوين».
ولا تؤمن المؤسسات الاستثمارية، التي تدخل هذه السوق بأن «البيتكوين» هي مستقبل المال، ولا أنها ستحدث ثورة في النظام المالي أو تسقطه، فهذه الشركات هي النظام المالي في حد ذاته. تشتري هذه المؤسسات «البيتكوين» لاعتقادها في قدرتها على الحصول على عوائد إضافية باستثمارهم فيها. علاوة على ذلك لا ينتمي فينك حقاً إلى «فريق البيتكوين» على الإطلاق، فقد صرح فقط بأنه يرى «قيمة» في صندوق «إيثيريوم» متداول في البورصة، لكن تكمن الحقيقة في أن قبول عالم التمويل التقليدي للعملات المشفرة ملؤه النفاق، تماماً كما هو الحال مع قبول عالم العملات المُشفرة للمؤسسات الاستثمارية. سمعت واحداً من المذيعين في بودكاست أخرى تركز على «بيتكوين، وهي «ذا وولف أوف أول ستريتس»، يقول إن «التمويل التقليدي منحل، شأنه شأن مجتمع العملات المُشفرة»، والأمر، مع الأسف، ليس غير مبرر تماماً.
ومع بروز صناديق «بيتكوين» المتداولة في البورصة، ينهار تماماً الفاصل، الذي كان واضحاً نسبياً يوماً ما، بين عالم العملات المشفرة والتمويل التقليدي، وكشف عالم التمويل التقليدي خواء الحديث عن تعلم دروس المستفادة من الأزمة المالية، وأظهر أنه ما زال جشعاً مثلما كان دائماً، شأنه شأن عالم العملات المشفرة.