يكره الناس التضخم حقاً. ينظرون إليه على أنه المسبب لكثير من الضغوط. أما خبراء الاقتصاد، فيعتقدون أن القليل من التضخم لا يضر، وأن الكثير منه يمكن أن يكون مؤشراً على أداء اقتصادي جيد للغاية. لكن عندما سئلوا، لم يتمكن حوالي نصف الأمريكيين الذين شملتهم الاستطلاعات من التفكير في تأثير إيجابي واحد للتضخم.
وأخيراً، صرح نيل كاشكاري، محافظ المصرف الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس بالولايات المتحدة، أن البعض ربما يكرهون التضخم حتى أكثر من الركود، فهل هذا حقيقي فعلاً؟، قد يبدو الركود والبطالة أفضل من التضخم لهؤلاء الذين يفترضون أن فقدان الوظائف سيحدث بعيداً عنهم. لكن النقطة التي طرحها كاشكاري كانت مختلفة، فقد سمع كاشكاري أن بعض العاملين ذوي الأجور المنخفضة في قطاع الخدمات اعتادوا أكثر على التعامل مع الركود، إذ بإمكانهم الاعتماد على الأصدقاء وأفراد العائلة في الحصول على مساعدة إذا ما فقدوا وظائفهم، أما التضخم فقد ألقى بظلاله على شبكتهم بأسرها، مما صعب كثيراً من مسألة التكيف معه.
من الصعب إيجاد دلائل على أن ارتفاع التضخم قد صعب من الحصول على الدعم، فقد انخفضت نسبة الأشخاص الذين أفادوا أنهم سيعتمدون على الأصدقاء أو أفراد العائلة في الحصول على نفقات طارئة قدرها 400 دولار باطراد من 10% في 2019 إلى 8% في 2021. هل من الممكن أن الناس يتذكرون الركود الأخير حينما كانت المدخرات وفيرة، وليس الركود الأكثر قتامة الذي بدأ في 2007؟.
يتمثل السؤال الأكبر في كيفية الموازنة بين البطالة والتضخم. وبالرغم من انخفاض التضخم في الولايات المتحدة حتى الآن دون التسبب في ضرر واضح لسوق العمل، فإن الفيدرالي قد يضطر إلى مواجهة مقايضة صعبة في سعيه إلى خفض التضخم نحو مستهدفه البالغ 2%.
وحاول خبراء الاقتصاد مرات عدة تحديد تفضيلات الناس بين التضخم والبطالة. وفحصت دراسة أجراها ديفيد بلانشفلاور لدى كلية دارتموث، بالمشاركة مع مؤلفين آخرين، حجم تأثير البطالة والتضخم على السعادة في أوروبا بين عامي 1975 و2013. ووجدت الدراسة، أن زيادة البطالة بنقطة مئوية إضافية كان أسوأ بخمس مرات بالنسبة لمدى الرضا عن الحياة مقارنة بارتفاع التضخم بنقطة مئوية إضافية.
وحاولت ثلاث دراسات حديثة التعرف على تفضيلات الناس فيما يتعلق بالتطورات التضخمية الأخيرة. وليس من المستغرب، بالنظر إلى تسجيل التضخم مستويات مرتفعة للغاية وفي ضوء تراجع سوق العمل، أن الناس كانوا أكثر اهتماماً بالأولى على حساب الثانية. وأجرت ستيفاني ستانتشيفا من جامعة هارفارد، استطلاعاً بين ديسمبر 2023 ويناير 2024، وخلصت إلى اعتقاد نحو اثنين من بين كل خمسة من المستجيبين للاستطلاع بوجوب أن يكون التضخم والبطالة على قدم المساواة من الأولوية، وذكر اثنان من بين خمسة آخرين أن إدارة التضخم يجب أن تأتي أولاً.
تحاول الدراستان الأخريان بيان تفضيلات الناس بصورة أكثر دقة عن طريق مطالبتهم بتصنيف سيناريوهات محددة، وهو ما جاء بنتائج متباينة، فقد توصلت الدراسة الأولى التي أجراها خبيران اقتصاديان لدى الفيدرالي، إلى أن الناس سيتحملون زيادة البطالة بنسبة 0.6 نقطة مئوية لتخفيض التضخم بنقطة مئوية. أما الدراسة الثانية التي أجرتها ستانتشيفا والمؤلفون المشاركون، فوجدت نفوراً أكبر من التضخم بثلاث مرات.
من الغريب قليلاً إيجاد مثل هذه النتائج المختلفة من مثل هذه التجارب المتماثلة. ولا يفسر اختلاف الظروف حسب توقيت إجراء الاستطلاع الفجوة في النتائج على ما يبدو، لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الدراسة التي أظهرت نفوراً أكبر من التضخم استطلعت آراء المشاركين في وقت لاحق لتسجيل التضخم الحقيقي مستويات أقل. ومع ذلك، وربما يعود الأمر إلى أن الخبرة التراكمية مع التضخم تجعل الناس أكثر انزعاجاً منه.
يرى خبراء الاقتصاد في الفيدرالي، أن النفور الأكبر من التضخم في الدراسة الأخرى ربما يعزى إلى أن السيناريوهات المطروحة كانت أكثر تطرفاً بعض الشيء. وربما تتغير المقايضات عند تسجيل التضخم مستويات شديدة الارتفاع، ويكون الناس أكثر استعداداً للمعاناة في ظلال قدر بسيط من البطالة إذا كان ذلك سيخفض التضخم.
ترى ما يعنيه هذا للسياسة؟، تشي الاستطلاعات بصفة عامة بأنه في حين سيبين الناس تفضيلاتهم عندما يكونوا واقعين تحت ضغط، فإنهم بصفة عامة غير حريصين على القبول بمقايضات. يميل المستهلكون المتفائلون إلى توقع انخفاض كل من البطالة والتضخم. وحتى الذين لا يفضلون التضخم فهم ليسوا مستعدين لدفع أثمان ارتفاع أسعار الفائدة الذي سيخفض ضغوط الأسعار.
وعقد مؤلفو الدراسة العاملين لدى الفيدرالي، مقارنة بين تفضيلات الناس كما ورد في استطلاعهم، بما قد يفترضه خبير اقتصادي عادة في سياق نموذج معياري للاقتصاد الكلي. ووجد المؤلفون، أن الناس يكرهون البطالة في حقيقة الأمر، ما ينطبق على أي من الدراسات الحديثة التي ستصدقها. إذن، يبدو أن الحل يكمن في وجوب عدم تفسير صانعي السياسة للغضب من الطفرة التضخمية الأخيرة باعتباره دليلاً على قنوط الجمهور من خفض التضخم من 3% إلى 2%. ولذا، فإن تحلي صانعي السياسة بالصبر مبرر في الوقت الحالي على الأقل.