خلال فترة رئاسته للولايات المتحدة، كان الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية المرتقبة في نوفمبر المقبل، دونالد ترامب، من أشد المنتقدين الرئيسيين للعملات المشفرة؛ فقد اعتبرها تهديداً للاستقرار المالي والنقدي، حتى انه غرّد عبر صفحته على «إكس» (تويتر سابقاً) في يوليو 2019 قائلاً: «أنا لست من أنصار البتكوين والعملات المشفرة الأخرى، التي هي ليست أموالاً، والتي تتقلب قيمتها بشدة وتستند إلى اللاشيء».
ومع ذلك، يظهر ترامب اليوم كمؤيد كبير لهذه التقنية، داعياً إلى أن تصبح الولايات المتحدة «عاصمة العملات المشفرة» في العالم، وجمعت حملته تبرعات من مزيج من العملات المشفرة، بلغت قيمتها أكثر من أربعة ملايين دولار، بحسب البيانات التي كشف عنها أحد مسؤولي حملته في تصريحات نقلتها شبكة «سي إن بي سي» الأمريكية قبيل أيام.
كما يبزغ في هذا السياق دعم مجموعة من أبرز شركات ومسؤولي التشفير وحاملي العملات المشفرة في الولايات المتحدة لترامب، بما يكشف دور الصناعة المتصاعد في الانتخابات الأمريكية. ومن بين هؤلاء كلا من مارك أندريسن وبن هورويتز، والتي يُنظر إلى شركتهما «أندريسن هورويتز»، باعتبارها أكبر مستثمر في العملات المشفرة عالمياً، وتستثمر قرابة الثمانية مليارات دولار بالقطاع.
يأتي هذا التحول في سياق سعي ترامب لجذب قاعدة جماهيرية واسعة تقدر بحوالي 50 مليون شخص في الولايات المتحدة، من بينهم نسبة كبيرة من الشباب الذين يتبنون العملات المشفرة. هذا التغير الاستراتيجي يعكس محاولة ترامب لمغازلة هذا القطاع الناشئ واكتساب تأييدهم في السباق الانتخابي.
وفي هذا السياق، شارك ترامب قبيل أيام قليلة، كمتحدث رئيسي في مؤتمر «بتكوين» السنوي في ناشفيل بولاية تينيسي - وهو أكبر مؤتمر للبتكوين - واستعرض سياسات العملات المشفرة حال عاد إلى البيت الأبيض، بما في ذلك إقالة رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصة الأمريكية (SEC) غاري غينسلر، وتعيين «مجلس استشاري رئاسي للبتكوين والعملات المشفرة»، داعياً إلى التمسك بعملة البتكوين وعدم بيعها بوصفها «ذاهبة إلى القمر» في إشارة إلى مستقبلها من وجهة نظره، وسط صيحات ترحيبية من المشاركين، فيما لامس سعر البتكوين بعد الخطاب الـ70 ألف دولار، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً.
يؤكد هذا التحول الأهمية المتزايدة لسوق العملات المشفرة كعامل مؤثر في الانتخابات الأمريكية، ليس فقط لأنها أصبحت موضوعاً رئيسياً في الحملات الانتخابية، ولكنها أيضاً تجذب اهتمام المرشحين الرئيسيين وتؤثر على استراتيجياتهم السياسية.
وبرغم موقف ترامب من العملات المشفرة، فإن سعر العملة المشفرة الأكبر، البتكوين، قد شهد ارتفاعاً خلال فترة ولايته التي استمرت من 20 يناير 2017 حتى 20 يناير 2021؛ حيث كانت تتداول بحدود الألف دولار في مستهل عام 2017، بينما جرى تداولها في مستويات تتراوح بين 30 و35 ألفاً، بنهاية ولاية ترامب.
ويُتوقع أن تصل البتكوين إلى مستويات من 100 إلى 150 ألف دولار حال ما إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض من جديد، بحسب تقديرات بنك «ستاندرد تشارترد»، بالنظر إلى موقف ترامب المؤيد لتلك العملات.
أسباب التحول
ويُبرر كبير محللي الأسواق في XTB MENA هاني أبو عاقلة، في تصريحات خاصة لـ«البيان»، تحول موقف ترامب من العملات المشفرة، بعدما كان مناهضاً لها في البداية، بعددٍ من الأسباب؛ أولها أن ثمة تقارير تشير إلى وجود نحو 50 مليون أمريكي يستخدمون العملات المشفرة، وغالبيتهم من الشباب، وبالتالي يسعى الرئيس الأمريكي السابق لمغازلتهم «انتخابياً».
السبب الثاني يرتبط بأن الولايات المتحدة سوق رئيسية وكبيرة في قطاع الطاقة، علاوة على حركة الهجرة الكبيرة للعاملين في نشاط تعدين العملات المشفرة وتمركزهم في الولايات المتحدة، وهذه الشركات تتمركز في مناطق صناعة النفط والطاقة؛ لأن بعضها يستخدم الغاز المصاحب للنفط وبعضها يستخدم الطاقة المتجددة والبعض الآخر لديه محطاته الحرارية للتوليد، مشدداً على أن ترامب يريد توطين هذه الصناعة وألا تذهب خارج الولايات المتحدة، وأن تصبح أمريكا فاعلاً بشكل كبير، لا سيما بعد خسارة الصين سوقاً تعادل تريليون دولار من العملات المشفرة، رغم أن أكبر الشركات المُنتجة لأجهزة التعدين هي صينية بالأساس.
وبالتالي فإن المرشح الجمهوري ينظر للعملات المشفرة نظرة استراتيجية؛ سواء لجهة المكسب التي تحققها لمحفظته الشخصية، علاوة على مغازلة 50 مليون شخص من خلال إظهار أنه ينظر للتطور والمستقبل. ويُشار إلى أن تأثير ترامب على العملات المشفرة ليس بالجديد، ذلك أن عملة الميم MAGA مُتأثرة بشكل كبير بصعود ترامب، علاوة على أن ترامب أطلق NFT (رموز قابلة للاستبدال) وتصل محفظة ترامب منها بعملة الإيثيريوم ما يعادل أكثر من ستة ملايين دولار، وفق أبو عاقلة.
هاريس تدخل على الخط
على الجانب الآخر، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الديمقراطيين كان لهم موقف سلبي نسبياً من العملات المشفرة، بدأت كامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية المحتملة ونائبة الرئيس جو بايدن، في اتخاذ خطوات لمزاحمة ترامب في هذا المجال، بعد أن بدأت حملتها إجراء اتصالات مع شركات التشفير، وهو ما يشير إلى محاولة لتوسيع قاعدة دعمها وجذب أصوات الشباب والمستثمرين في العملات الرقمية.
هذا ما كشفه تقرير لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، في 27 يوليو الماضي، نقل عن أربعة مصادر مطلعة على الأمر قولهم إن أعضاء فريق هاريس تواصلوا مع أشخاص مقربين من شركات التشفير في الأيام الأخيرة. وقال اثنان من الأشخاص إن هؤلاء يشملون بورصة كوين بيس وشركة سيركل للعملات المستقرة ومجموعة مدفوعات بلوكتشين ريبل لابس.
ورقة انتخابية
ويشير عمرو زكريا عبده، الشريك المؤسس لـ Market Trader لدراسات أسواق المال، في تصريحات خاصة لـ«البيان» إلى أن سبب تحول ترامب لدعم العملات المشفرة، هو رغبة المرشح الجمهوري للتموضع السياسي، ومحاولة لكسب أصوات الناخبين الشباب الذين يمثلون الكتلة الصلبة للمتعاملين بالعملات المشفرة.
في المقابل، فإن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، ومن خلفهم الديمقراطيون، متهمون بأنهم «أعداء التطور» لتكنولوجيا المال وخاصة العملات المشفرة التي تمنح المتعلمين بها قدراً من الحرية غير متاحة في النظام المصرفي التقليدي. وهذه «الحرية» هي الوتر الذي يود أن يعزف عليه ترامب بالخروج «مشجعاً ونصيراً» للعملات المشفرة، وفق عبده.
ويشار إلى أنه في عهد الرئيس المُنتمي للحزب الديمقراطي، جو بايدن، ارتفعت قيمة البتكوين من مستويات بين 30 و35 ألف دولار في بداية عهده، وصولاً إلى مستويات 73 ألف دولار تقريباً في مارس الماضي، وهي قمة غير مسبوقة بالنسبة لأسعار العملة المشفرة الأكبر، التي يتم تداولها حالياً عند مستوى 60 ألف دولار، بينما تشير التغيرات في المواقف تجاه العملات المشفرة إلى تحول ملحوظ في الديناميات السياسية الأمريكية، فمع تزايد الاهتمام بهذا القطاع، يبدو أن سوق «الكريبتو» لن يكون مجرد موضوع تقني بل سيكون له دور بارز في تشكيل السياسات الانتخابية والتأثير على مصير الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويُنظر إلى «عودة ترامب» باعتبارها المحفز المرتقب لسعر البتكوين في المرحلة المقبلة، وذلك بعد جملة من العوامل الأخرى التي شكلت دعماً للسوق في الشهور الأخيرة، بداية من الموافقات على الصناديق المتداولة بالعملات المشفرة ومروراً بحدث التنصيف في شهر أبريل الماضي.
لكن على النقيض من ذلك، يقلل الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، طارق الرفاعي، من تداعيات التحولات «السياسية» إزاء الموقف من العملات المشفرة على أداء سوق الكريبتو عموماً، قائلاً: «لا أعتقد بأن التحركات السياسية الحالية يُمكن أن تحمل تغيرات قوية - سواء إيجابية أو سلبية - على مسار العملات المشفرة على المدى الطويل».
ويبرر ذلك بقوله لـ«البيان»: ما يحكم أداء العملات المشفرة هو ما يتعلق بالعرض والطلب والمضاربة التي تتعرض إليها بعض تلك العملات.. وبالتالي فمن غير المرجح أن تتأثر بشكل كبير على المدى الطويل بهذه المواقف السياسية.