يعتمد التقدم الاقتصادي على الجريئين الذين يتحملون المخاطرة ويطبقون التكنولوجيا بطرق جديدة لتحقيق أشياء مختلفة
يحب وادي السيليكون الاحتفال بالفشل كمرحلة تمهيدية للنجاح، وهذا أمر جيد بالنظر إلى أن الفشل سمة شائعة في عالم الشركات الناشئة، فنحو 90 % من الشركات الناشئة تفشل، حتى في الأوقات الجيدة اقتصادياً، لهذا يردد رواد الأعمال شعار «افشل سريعاً، وافشل كثيراً».
وقد شهد فصل الشتاء الماضي، الذي مر به رأس المال المخاطر مؤخراً، انخفاض التمويل العالمي بنسبة 61 % من 2021 إلى 2023، مع موجة جديدة من إغلاق الشركات. ورصدت شركة «سي بي إنسايتس» للبيانات فشل 483 شركة ناشئة مؤخراً، وحددت أسباب عدة وراء ذلك، منها: نفاد الأموال (ليست فكرة جيدة أبداً)، أو أن يتفوق عليهم المنافسون، والتناحر بين المؤسسين أو بينهم وبين المستثمرين، إضافة إلى الإرهاق.
وتشير أسطورة وادي السيليكون إلى أن هذه الإخفاقات يمكن أن تكون «فرصة» يتعلم منها رواد الأعمال المرنون أن يكونوا أكثر ذكاء في المرة المقبلة، لأن «النجاح معلم سيئ» كما يقول بيل جيتس المؤسس المشارك في «مايكروسوفت»، «فهو يغري الأذكياء بالاعتقاد أنهم لا يمكن أن يفشلوا».
رغم ذلك هناك عيبان لهذه النظرية المثيرة، الأول هو أنها تميل إلى تجاهل الأضرار الجانبية والتكلفة البشرية للفشل، فلا أحد يحتفل بانهيار شركة مثل منصة العملات المشفرة المخادعة «إف تي إكس»، التي حُكم على مؤسسها، سام بانكمان-فرايد، بالسجن، رغم أنها كانت «لحظة للتعلم» من نوع مختلف للمستثمرين، ونحن نادراً ما نستمع إلى الذين لم يخوضوا تجربة ثانية، فبمقدور الفشل أن يسحق صحة الناس وثرواتهم وعلاقاتهم، وأن يخرب حياتهم، وآخر شيء يرغب في فعله العديد من المؤسسين الفاشلين هو العودة إلى رحلة مليئة بالإثارة والتوتر.
والعيب الثاني، هو أننا نميل إلى المبالغة في تقدير كم مرة أدى فيها الفشل إلى نجاح لاحق. وأشارت ورقة بحثية مثيرة للاهتمام صدرت هذا الصيف عن جمعية علم النفس الأمريكية إلى المبالغة في تقدير منافع الفشل، وذهبت لورين إسكريس-وينكلر، الباحثة الرئيسة والأستاذة المساعدة في جامعة «نورث ويسترن» إلى أن «الناس يتوقعون أن يأتي النجاح تلو الفشل أكثر مما يحدث في الواقع».
ويمكن للفشل أن يقوض الدافعية والثقة، ولا يؤدي دائماً إلى أن يصحح الناس أنفسهم، وفي أغلبية المجالات الأخرى نفترض أن السلوك السابق يعتبر مؤشراً على السلوك المستقبلي، وتساءل مؤلفو الورقة البحثية، لم نفكر بصورة مختلفة إذا تعلق الأمر بالفشل والنجاح؟
رغم ذلك، وبالنسبة لي، فهناك شيء ملهم في استعداد وادي السيليكون في الرهان على الإخفاقات المحتملة، حتى إن اتفق الجميع على أنه من الأفضل تجنب الفشل، يعتمد التقدم الاقتصادي على الجريئين الذين يتحملون المخاطرة، ويطبقون التكنولوجيا بطرق جديدة لتحقيق أشياء مختلفة، أو مجنونة في بعض الأحيان.
واحتوى تقرير رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراجي، عن كيفية تعزيز التنافسية الأوروبية، والذي نشر أخيراً، على علاجات تكنوقراطية عديدة وجديرة بالاهتمام، ينبغي تنفيذها بسرعة، لكن كان عليه أن يؤكد ضرورة التغيير الثقافي والتسامح مع الفشل، لتحفيز مزيد من الشركات على تحمل المخاطرة.
ويمكن لصناع السياسة الأوروبيين أن يتعلموا الكثير من تقرير أقصر كثيراً كتبه بول جراهام، المستثمر في قطاع التكنولوجيا، الذي ميز مؤخراً بين ما أسماه «نمط المؤسس»، في الأيام الأولى لأي شركة ناشئة، و«نمط المدير» الذي يصر المستثمرون على أن «البالغين» مطلوبون لتوسيع نطاق الأعمال. واستناداً إلى خبرة كثير من المؤسسين، قال جراهام إنه عادة ما يكون من الخطأ بالنسبة للشركات أن تنتقل بسرعة من النمط الأول إلى الثاني، لأن الشركات تحتاج إلى أن تبقي على ثقافة المخاطرة السريعة والتجربة، وهي من سمات «نمط المؤسس».
ومن الواضح أن نمط المدير ينطبق على الشركات الأكبر، حيث يسود الابتكار التدريجي، ويكون الابتكار المخل بالنظام هو الاستثناء.
ويمكن القول أيضاً إنها العقلية الافتراضية السائدة لدى كثير من الشركات الأوروبية. ويتمثل المسار المثالي، بطبيعة الحال، في الجمع بين أفضل ما في الوضعين، من حيث نطاق وقدرات الشركات الكبيرة، مع روح ومرونة الشركة الأصغر، كما كتب جيف بيزوس، مؤسس شركة «أمازون»، فلكي تنجو في العصر الرقمي سريع التغير تحتاج حتى الشركات العملاقة مثل «أمازون» إلى الاحتفاظ بعقلية اليوم الأول التجريبية المهووسة بالعملاء.
يتصف ذلك بصعوبة بوجه خاص، عندما تتغير هياكل الحوافز في الشركات الأكبر، وحينما تتدخل بيروقراطية الشركة وسياساتها، وعندما تصبح الأجور المنتظمة والمكافآت أكثر أهمية من الأسهم.
وغالباً ما يؤدي كل هذا إلى إعطاء الأولوية لتقليل المخاطر على حساب تعظيم المكافآت، وهو ما تحدث عنه الخبير الاقتصادي جون ماينارد كينز، بصورة ممتازة، فقال: «إن الحكمة الدنيوية تعلمنا أن الفشل التقليدي أفضل للسمعة من النجاح غير التقليدي».
إن عبقرية وادي السيليكون تكمن في أنه يحتقر الفشل التقليدي، ويحاول خلق مساحة آمنة للنجاح غير التقليدي، وتحتاج المزيد من الشركات خاصة في أوروبا إلى إعادة تبني «نمط المؤسس» ذلك.