"أريد أن أركب الطائرة"، "لماذا؟"، "لأنني أريد أن أحلق.. فوق الغيوم!". هذه تونس. وبوسعنا أن نتخيلها، كما أراد صناع فيلم "شبابيك الجنة"، طفلة جميلة، بيضاء بنضارة الامل، ذهبية الشعر كما ذهب الشمس التي يحن إلى سطوعها كثر في بلد تزرع فيه القنابل، في الشوارع والأمكنة العامة، فيزداد أهله حباً بالحياة والفن.. والسينما.
قتل الأب
من رحم السينما، ينبت الأمل، حين تشتد الدعاية الرجعية، وتملأ الآفاق غيوم رمادية، وينزل مطر بارد، تصقع معه القلوب، وتبرد همة الشباب، وتخبو حرارة الأجساد، وتستطيل اللحى الجنائزية، ويتوه الصوت ويختفي، ويسود العقم. تغرق الطفلة على الشاطئ، فيما أهلها والأصحاب مشغولون بانتقاد الواقع الفارغ كما المسلسلات الآسيوية "المدبلجة إلى العربية"، وينشغل جزء منهم بالنوستالجيا إلى زمن الفساد، الذي كان، بالرغم من كل شيء، "له وهرة".
تونس الشقراء، التي تجسد المستقبل، والتي تسأل "لماذا القمر دوماً عينه عليها"، ستغرق، لأن لا أحد ينتبه لها، يحبونها لكن يسهون عنها، أما بالغرق بانتقاد ما آلت إليه الأمور في الحاضر، أو بالتوهان في دوائر الماضي. على أحد ما أن يتحرك. على المخرج فارس نعناع والكاتبة نادية الخماري أن يقتلا قبل كل شيء "صورة الأب"، لكي يتم تقبل الفقدان، وبعدها، ربما تستقر الأمور.
البوابات الخضراء
الأب في الجنوب، هناك حيث تنتصب بوابات خضراء، مزدانة بوعود عن الجنة. تبدو كأنها "شبابيك الجنة" أيضاً، لا حلوى العجين فقط التي تقلى بالزيت وتسمى بهذا الاسم، نعرفه من الجدة المستوحدة، في جلستها مع الحفيدة قبل الاختفاء.
الأب (جسد دوره الممثل النابض بالطاقة لطفي العبدلي ونال عنه أفضل ممثل في دبي السينمائي)، يتوجب عليه أن يمضي في رحلته الوجدانية - النفسية، إلى جذره الأول، بعد البوابات الخضراء، حيث تتشح النسوة بالسواد، يتنقبن به، تحت سماء غبارية، وبين جدران بلون التراب. هناك، سيلمس كف أبيه، الذي جهل نسبه إليه طوال حياته، قبل أن يحمل نعشه، ويغادر عائداً إلى بيت الزوجية. لكي يتصالح مع فقدان أمله المتمثل بالطفلة الصغيرة، ويعبر إلى المستقبل (حتى لو بعربة ذات كشافات منيرة في طريق مظلم كما في اللقطة الأخيرة من الفيلم)، متسلحاً بذكرى من أثرها: عصبة حمراء ربطها حول معصمه، نبض دمائه، سيستمد منها قوة العبور، بعيداً عن الوعود الواهمة للبوابات الخضراء ذات الزخارف الذهبية.
على سجادة الإيمان
في البيت، سينتظره حضن دافئ، زوجة تعرف كيف تقاوم الفقدان بالحب والغناء (أدت دورها بحرفية عميقة أنيسة داوود التي تستحق أيضاً جوائز)، ولا تتخلى عن إيمانها في أحلك الأوقات. ستبكي بحرقة على سجادة الصلاة، لكنها، ستناشد الله أيضاً في مكان آخر، وسط الجوقة الموسيقية، على خشبة مسرح تقف وتترنم بأغنية مرسيل خليفة: "عصفور طل من الشباك وقلي يا نونو". أغنية كانت تهدهد بنغمها طفلتها الفقيدة، قبل أن تتحول معانيها إلى فضاء يجسد ما آل اليه مصير الزوج، والعائلة، وربما الوطن: "قلتلو ريشاتك وين، قللي فرفطها الزمان".
"ريش تونس" المنثور في هذه الأيام في سماء تنذر بالقلق، آثر المنتج الشاب حبيب عطية والمخرج نعناع، وفريقهم، أن يكنسوه عن "شبابيك الجنة"، ويعيدوه إلى الأرض: "الرحلة يجب أن تنجز هنا، والصوت يجب أن يصدح هنا، والحب يجب أن يمارس هنا.. على الأرض، حتى لو ابتعدت الطفلة- تونس على حدود الشبابيك، فوق الغيوم".
في الرحلة يجب أن "يجابه الآباء" المهيمنون، في قبورهم وأيضاً وهم أحياء. ومن صنف الأحياء، والد البطلة الذي يجسد السلطة الذكورية البطريركية التقليدية، المهيمنة على النساء (الزوجة والابنة). في أحد المشاهد، يهاجم الابنة ولا يتعاطف مع معاناتها من اللامبالاة التي تعيشها من قبل الزوج الغارق في أحزان الفقدان، بل أنه يصادر حقها في الكلام، ويتحيز بشكل واضح إلى زوج ابنته قائلاً: "أنا لم أربيك على هذا المنوال"، في إشارة إلى التربية على الخضوع لسلطة الرجل.
العروبة والخلافة
معان قوية، في فيلم يتسع لكثير من التحليل، وروح من متعة المشاهدة، وتلقف الأداء التمثيلي للعبدلي وداوود وآخرين، على وقع موسيقى قيس السلامي التي تنذر دوماً بالخطر، وبالصراع الذي يدور في أعماق بطل الحكاية، التائه بين الماضي وبواباته وبين الحاضر وتخبطه (يقول لزوجته في أحد المشاهد ساخراً: تريدين أن تتعلم ابنتنا مناهج عالمية في بلد يتحدث عن العروبة والخلافة أكثر فأكثر، قبل أن يشرب من نبيذه محتفياً بزواج دام عشر سنوات).
الصورة السينمائية ناضجة، في لغة نعناع الآتي من السينما القصيرة والدراما التلفزيونية، متمكنة، بالمقارنة مع ما نفترضه من أول تجربة لفيلم روائي طويل. لغة تنذر بآفاق مستقبلية واعدة أكثر لجهة ابتعادها عن "التبسيط" (وإن كان ممتعاً في هذا الفيلم) واستعراض مهارات إخراجية أشمل.
العبدلي الفائز
يبقى القول إن لطفي العبدلي، الممثل الذي تمتد شهرته على طول المغرب العربي، بسبب أعماله المسرحية، وتحديداً عرضه المستمر "صنع في تونس"، تمكن في هذا الفيلم أن يجسد باقتدار مشاعر التوهان والصراع، وأن يسخر طاقته التي لا يمكن وصفها إلا بمشاهدته فعلاً على الخشبة (تأتى لكاتب هذه السطور من فعل ذلك خلال عرضه صنع في تونس في دبي قبل شهور حين أغرق الصالة بالضحك حتى الدموع)، لكي يبحر بجمهوره إلى عوالم أكثر عمقاً وشجناً، وإنسانيةً، في دور حصل عنه على جائزة "أفضل ممثل سينمائي" خلال الدورة الأخيرة من "مهرجان دبي السينمائي الدولي".
مع ابتسامة الزوجة لعودة زوجها، وصورة السيارة التي تعبر في الفضاء المظلم، بكشاف نور ساطع، يختم صناع الفيلم رحلتهم على أمل مشوب بالحذر.. تماماً كما مستقبل البلاد التي تحلم بالغيوم و"شبابيك الجنة"!.