احتفلت صحيفة «الشرق الأوسط» في يوليو الماضي بمرور 40 عاماً على صدورها من عاصمة الضباب لندن في 4 يوليو 1978 كمطبوعة متميزة، ليس من حيث التوزيع في جميع أنحاء العالم والطباعة بشكل متزامن في 12 مدينة، وفي 4 قارات مختلفة، وإنما أيضاً لجهة المصداقية والمهنية العالية وتقديم التحليلات المتعمقة، والتغطيات الأكثر شمولاً في العالم العربي.
وبهذه المناسبة تذكر الكثيرون أولئك الرجال الذين وقفوا خلف نجاحاتها، وكرسوا وقتهم وحياتهم وجهدهم في سبيل مد القارئ بالخبر الصحيح والمعلومة الدقيقة والمعرفة المفيدة.
صحيح أنه توالى على قيادة «الشرق الأوسط» مذاك وحتى اليوم 10 رؤساء تحرير، إلا أن أكثرهم ارتباطاً بها ووضعاً لبصماته عليها وتفانياً في خدمتها كان عثمان العمير، الذي يحار المرء في إيجاد صفة له تتناسب مع شخصيته المثيرة للجدل، وآرائه المستفزة للبعض، وعلاقاته المتشعبة مع الكبار شرقاً وغرباً، وهواياته الغريبة، وأحكامه القافزة لكل الحواجز، وطبيعته الإنسانية الودودة، وعشقه للحياة والموسيقى والفنون والحضارة البريطانية، وقراره البقاء عازباً إلى نهاية العمر.
إنه حقاً أكثر من شخص، وبالتالي فهو أكثر من انطبق عليه اسم البرنامج الذي استضافه في رمضان 1439 للهجرة (مجموعة إنسان)، الذي يقدمه الإعلامي السعودي علي العلياني على قناة «إم بي سي».
أطلق عليه محبوه ألقاب «عراب الصحافة السعودية»، و«قيصر الصحافة العربية الإلكترونية»، و«جليس الملوك والرؤساء»، و«هيكل السعودية»، وأطلق عليه خصومه عدداً من الألقاب غير «السوية»، فيما هو غير مكترث بما يـُقال عنه، متأسياً بالمتنبي في قوله «أنام ملء جفوني عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصم».
للحديث عن العمير «المشاكس» سوف نستقي المعلومة من عدد من الحوارات الصحفية والتلفزيونية التي أجريت معه، والمقالات التي كـُتبت عنه، وبعض المراسلات والأحاديث التي تمت بينه وبين كاتب السطور في أكثر من لقاء ومناسبة.
ولد العمير يوم 25 أغسطس 1950 بمدينة «الزلفي» النجدية، ابناً لرجل الدين المحافظ الشيخ موسى بن عمير العمير، الذي خالف إخوته الـ4 فلم يهاجر معهم من الزلفي إلى العراق «في هذا السياق، قال العمير في مقال له في الشرق الأوسط بتاريخ 10/5/2003 ما معناه، إنه كان ممكناً أن يكون عراقياً بالولادة لو أن والده خرج من الزلفي مع أعمامه إلى العراق».
أما أمه فهي نورة بنت سليمان الذيـّب، المنحدرة من أسرة نجدية، عـُرفت بعملها في التدريس والقضاء.
بيئة محافظة
نشأ العمير كغيره من أبناء العائلات النجدية في بيئة محافظة، وكان والده يريد له أن يصبح مثله شيخاً أو داعية، لكنه لم يستسلم لرغبات أسرته، بل اتجه وجهة معاكسة غير ملتزمة بالماضويات قدر التزامها بأفكار التحضر والتمدن، على الرغم من اعترافه بأنه استفاد بشكل كبير من ثقافة والدته المتعلمة.
أحد المنعطفات الأولية المهمة في حياته كان انتقاله مع والديه إلى المدينة المنورة (وصفها في حواره مع علي العلياتي في برنامج «مجموعة إنسان» بـ«مدينة مفتوحة الأفكار، لا حدود للمعرفة فيها»)، بحكم نقل والده إلى هناك ليكون ضمن الفريق المؤسس للجامعة الإسلامية بالمدينة سنة 1960.
ومما لا شك فيه أن هذا الانتقال من بيئة منغلقة ومحافظة كبيئة الزلفي إلى بيئة المدينة المنورة المتميزة بمظاهر الانفتاح والتعددية الثقافية والاجتماعية كانت له انعكاساته الإيجابية على سنوات التكوين الأولى في حياته، على الرغم من أن تلك السنوات حفلت ببعض المتاعب التي أعادته مرة أخرى إلى نجد، لكن ليس إلى الزلفي وإنما إلى العاصمة الرياض.
وملخص القصة كما رواها بنفسه في قناة «إم بي سي» ضمن برنامج «نقطة تحول» للإعلامي السعودي الراحل سعود الدوسري، أنه حينما كان يدرس في «المعهد العلمي» الديني بالمدينة كتب في مجلة الحائط نكتة محورها نظرية دارون في النشوء والارتقاء فتسبب ذلك في انزعاج إدارة المعهد واتهامها له بالكفر، ومن ثم قرارها بفصله سنة 1968، لكن جرى اتفاق سري دون علمه بين والده والمعهد قضى بنقله إلى المعهد العلمي المماثل في الرياض لإتمام تعليمه.
وعلى غير المتوقع من شاب بدت عليه آمارات التمرد والتذمر والجموح مبكراً، أنهى العمير دراسته في المعهد المذكور، بل اكتشف في الرياض حياة توافقت مع ميوله الكروية «تشجيع نادي الهلال»، واهتماماته الفنية «الطرب والموسيقى»، فحفر في العاصمة جزءاً من ذكريات شبابه، لاسيما في البطحاء وشارع الوزير وحلة القصمان.
تجاهل
لم يسلم العمير - شأنه في ذلك شأن المبدعين من حملة رايات التنوير والحداثة - من الحسد والقيل والقال والشائعات المغرضة والاتهامات الجوفاء، غير أن صاحبنا حصّن نفسه بمضادات التجاهل فمضى في طريقه مؤمناً بمبدأ «أن من يعمل تحت الأنوار الكاشفة لا بد أن تلاحقه تخرصات الظلاميين»، واستمر يمضي غير آبه بشيء سوى الاستمتاع بكل جميل في الحياة، بل التعلق بالحياة نفسها إلى درجة قيامه بطلب تحنيط جثمانه بعد مماته في الولايات المتحدة إلى أن يجد العلماء علاجاً للموت، قائلاً: «أعتقد أن الإنسان أثبت أن كل شيء ممكن أن يحدث فلو استعرضنا حجم التقدم الإنساني في مجال العلم والتطور فسيصبح الهروب من الموت شيئاً محتملاً»، طبقاً لما ورد في حواره مع «إم بي سي» في مايو 2010.
انتقادات لاذعة
هذا الطلب أثار ردود أفعال قوية وانتقادات لاذعة فخرج العمير يدافع عن نفسه قائلاً إن تصريحاته عن الموت أخذت حجماً أكبر من حجمه وفُسرتْ بطريقة غير التي كان يقصدها، موضحاً في حوار إذاعي مع «إم بي سي إف إم» «كنت أقصد السعي الدائم إلى الحياة وعشق الحياة، فنحن نحافظ على أنفسنا من أجل ألا نموت، ونحاول ألا نتعرض لمتاعب صحية حتى لا نموت، ولكن الموت حقيقة مثله مثل أي شيء آخر في الدنيا».
ولم تكد هذه الحملة عليه تتراجع إلا وعادت بصورة أقوى بُعيد تصريح له عزا فيه تأخر العرب إلى عدم اهتمامهم بالموسيقى، مدللاً صحة كلامه بالإشارة إلى أن الفترات التي كان العرب فيها يهتمون بالموسيقى كانت حضارتهم تتقدم بقدر ذلك الاهتمام، ومضيفاً: «من لم يهتم بالموسيقى فهو كالأغنام، ومن يحرمها فهم في آخر مرتبة من الحيوانات».
في عام 1984 وضع العمير أولى خطواته الثابتة في بلاط صاحبة الجلالة، وذلك حينما اختير رئيساً لتحرير «المجلة»، الصادرة في لندن عن الشركة السعودية للأبحاث والتسويق (مالكة صحيفة «الشرق الأوسط»)، لكن الخطوة التي رسخت أقدامه بصلابة في عالم الإعلام المكتوب جاءت بعد 3 أعوام من عمله في «المجلة».
ففي عام 1987 وجدت الرياض ضرورة استبدال جهاز تحرير «الشرق الأوسط» بجهاز تحرير جديد يترأسه صحفي سعودي مثقف وطموح ومخلص لوطنه وقيادته.
التفت ملاك الصحيفة الخضراء يميناً ويساراً فلم يجدوا أفضل للمهمة من عثمان العمير، الذي كان وقتها قد راكم خبرات صحفية ومهنية معتبرة، وعلاقات قوية مع رموز الفكر والسياسة. وهكذا صار العمير رئيساً لتحرير إحدى أقوى الصحف العربية وأكثرها انتشاراً وقراءة في العالم العربي وبلاد المهجر.
أما المفارقة هنا فهي أن العمير كان قد كتب قبل نحو 30 عاماً مقالاً يسفه فيه «الشرق الأوسط» بسبب نشرها صوراً مخلة من وجهة نظره آنذاك، ولأن ليس من طباعه التهرب من فعل أو قول سابق، فقد وصف ما أقدم عليه بـ«العته».
من خلال هذا المنصب الذي شغله ما بين عامي 1987 و1998 قابل وحاور وحاز على إعجاب العديد من الزعماء العرب وقادة العالم الكبار في تلك الحقبة. والحقيقة أن دوره في هذه الحقبة الذهبية من حياته تجاوز دور رئيس التحرير إلى دور «البلدوزر»، الذي يزيل ويمحي من أمامه كل من يتخرص ضد بلاده عبر مقالات مقنعة.
قبل ترك العمير لمنصبه القيادي في «الشرق الأوسط» تحت تأثير الحزن الذي أصابه برحيل سنده الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، كان قد أسس في العام 1995 شركة إعلامية في بريطانيا مع صديقه وخليفته في رئاسة تحرير «الشرق الأوسط» عبدالرحمن الراشد، وأطلقا عليها اسم (OR)، إشارة إلى الحرفين الأولين من اسميهما باللغة الانجليزية.
تخصصت الشركة الوليدة في إعداد برامج تلفزيونية لقنوات فضائية في الشرق الأوسط والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لكن شراكة الرجلين انفضت لاحقاً، حيث عزا العمير السبب، في حواره مع علي العلياني، إلى عدم فهمه في مهنة التلفزيون على العكس من عبدالرحمن الراشد المتخصص في التلفزيون والحائز على خبرات تلفزيونية من الولايات المتحدة.
وفي الحوار نفسه امتدح العمير شريكه السابق قائلاً: «إن الراشد مارس الصحافة والتلفزيون والكتابة، ومن الطبيعي أن يكون أفضل من العمير الذي لا يعرف سوى الصحافة».
تخليد
لكن، ما الذي سيخلد عثمان العمير؟ هل قيادته للصحيفة الخضراء لعقد كامل، أم علاقاته مع الملوك والرؤساء، أم معاركه وصرعاته الفكرية؟ يبدو أن الرجل شعر بأن كل ما سبق لن يخلد اسمه، هو العاشق للشهرة والأضواء والجمال والخلود، ففكر في تأسيس موقع «إيلاف» الإلكتروني يوم 21 مايو 2001 ليخلد اسمه في الحياة.
لقد أتى العمير، من خلال تأسيس هذا الموقع في المملكة المتحدة، بما لم يأتِ به الأوائل. وعليه سوف يُخلد اسمه في تاريخ الإعلام العربي كصاحب أول وأشهر صحيفة عربية إلكترونية.
وقد أوضح بنفسه أن أجمل ما في تجربة «ايلاف» هو العري الكثير، قائلاً: «لا أتكلم عن العري الجسدي ولكن العري في الخبر، حيث نكشف الحقائق كما هي دون تزييف ونحن خاضعون لنظام بريطاني قاسٍ جداً».
«المغامرة»
نعم، قاد العمير تجربة إطلاق الصحيفة الإلكترونية العربية الأولى، واصفاً إياها بـ«المغامرة»، لكنها كانت مغامرة ناجحة بكل المقاييس، بدليل أن الصحافة الإلكترونية العربية سرعان ما انتشرت وصارت تنافس الصحافة الورقية، وأصبح لها عُشّاق بالملايين.
فحققت تطوراً هائلاً في زمن قياسي، وإن شئت دليلاً آخر فهو حصد «إيلاف» وصاحبها للعديد من الجوائز مثل: جائزة شخصية العام الإعلامية، التي تسلمها العمير من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عام 2007، ودرع التكريم خلال منتدى الجائزة العربية للإبداع الإسلامي لعام 2007 في الأردن، وجائزة الإبداع الإعلامي من مؤسسة الفكر العربي في مؤتمرها الـ6 في البحرين عام 2007.
إلى ذلك، استطاع العمير بحسن تدبيره واستثماره للعلاقة الخاصة التي ربطته بالملك الحسن الثاني منذ أن تولى كتابة مقدمة مذكرات الملك عام 1979 أن يتملك خلال أعوام قليلة، بجانب صحيفة «إيلاف»، أكبر دار نشر صحفية في المغرب هي مجموعة «ماروك سوار»، وقتها ردد خصومه كذباً أنه مجرد واجهة فحسب لإدارة مجموعة النشر، زاعمين أنه «لا يملك مشاريع كافية تؤمن له النقود لشراء المجموعة».
عشق
بعد تخرجه من المعهد العلمي في الرياض، التحق عثمان العمير بجامعة «الإمام محمد بن سعود»، لإكمال دراسته الجامعية والتي تعطلت بسبب طغيان عشقه للصحافة على التحصيل الجامعي، إذ كان وقتها قد بدأ مشواره الصحافي مراسلاً رياضياً في عدد من الصحف السعودية مثل «المدينة»، و«الندوة»، و«الرياض»، ومجلة «اليمامة»، ثم أتبعه بالعمل في صحيفة «الجزيرة» السعودية في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث تولى رئاسة القسم الرياضي، ثم سكرتارية التحرير، لكنه ترك منصبه وسافر لدراسة اللغة الانجليزية في لندن بالمملكة المتحدة، التي عمل منها مراسلاً لصحيفة «الجزيرة» حتى عام 1983.
تخللت هذه الفترة من حياته عودته إلى السعودية عام 1980، حيث أمضى 8 شهور في المنطقة الشرقية، رئيساً لتحرير صحيفة «اليوم» الصادرة من الدمام، عاد بعدها إلى لندن.
نافذة
مثلت لندن لعثمان العمير النافذة التي شاهد من خلالها العالم الآخر بكل صوره وألوانه، بجنونه، وصرعاته، وفنونه، ومكتباته، ومتاحفه، ومطابخه، و«أتيكيتاته»، وابتكاراته، وتقلباته، وثوراته، وسجالاته، وطبقاته، وغيرها، ليراكم مخزوناً معرفياً واسعاً وممتداً.
كما بنى العمير على مدار أعوام عمله الصحفي علاقات بالنخب وصفوة المجتمع المخملي والدبلوماسي والإعلامي، التي ساهمت لاحقاً في بروزه كقطب من أقطاب الإعلام العربي في الغرب، وكصاحب قلم رشيق متميز في الوطن العربي وبلاد المهجر، وكصوت حر جريء يقول ما يؤمن به دون حرج أو تردد.