كثيرة هي المعالم التي تلتصق بالذاكرة الإنسانية، لكل واحد منها أناقته وشكله المعماري، وتراثه الحضاري، وعلى مدار الزمان ظلت هذه المعالم أمثلة على التعايش الإنساني، ومن بينها متحف «آيا صوفيا»، الذي يمثل جزءاً من إسطنبول التاريخية، ورمزاً للتلاقي الحضاري بين الشرق والغرب.
كما أن «آيا صوفيا» تحفة معمارية وفنية أخاذة، نجحت في حجز مكانة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي كمتحف متفرد، وظل المتحف على الدوام وفياً للأثر الإنساني، إذ يتوجب الحفاظ على وضعه القانوني، وطبيعته المعمارية والإنشائية.
وهذا هو نهج العالم المتحضر، الذي ينشد خير البشرية، ويتشارك في الإرث الإنساني، مشاركة كاملة وافية، وهو ما تحرص عليه وتعمل وتتعاون في سبيله دولة الإمارات مع شتى الجهات العالمية، سعياً للمحافظة على التراث العالمي بمعالمه ومضامينه كافة.
وفي هذا السياق، استطلعت «البيان» آراء عدد من المثقفين، الذين أكدوا أهمية المحافظة على هذه المعالم وصونها من أية تجاوزات أو انتهاكات تطال مكانتها وقيمتها التراثية الحضارية الإنسانية، وذلك احتراماً وصوناً لكل القوانين والمعاهدات الدولية، التي تعنى بحفظ وحماية المعالم المدرجة على قوائم التراث العالمي.
بصمة
أكد بلال البدور، رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم في دبي أن التراث المادي أينما وجد، يظل ملكاً للإنسانية جمعاء، وليس من حق أحد التحكم به أو تغيير وضعه والمساس به، وقال: «يجب علينا المحافظة على هذه المعالم، التي من بينها «آيا صوفيا»، بكل ما أوتينا من إمكانات وعزم وجهد، لأنه من حق الأجيال المتعاقبة، الاطلاع عليها والتعرف على أسرارها وجمالياتها المتنوعة والتي تنطوي على قيم حضارية مهمة، وبالتالي يجب على الدول التكاتف والتآزر في سبيل المحافظة على هذه الآثار».
وأضاف البدور: «إن الإجراء الأخير المتخذ بحق «آيا صوفيا» يأتي في وقت تبذل فيه دول العالم جهوداً لتعزيز الأخوة الإنسانية وإغناء التعايش والتواصل بين الشعوب والحضارات كافة، حيث تحرص الدول، وخاصة الإمارات، بالتعاون مع الجهات المعنية، على تجسيد وترجمة ركائز ومفاهيم هذه الرؤية بالمسارعة لإنقاذ أي أثر إنساني وتاريخي يتعرض للتدمير، عبر صيانته والاهتمام به، ولمسنا ذلك في عديد من البلدان، وفي مختلف المواقع فيها.
وبناء على ذلك، على دول العالم كافة تعزيز ورفد هذا النهج الإنساني وصون جميع المقدرات والمعالم التي تمثل إرثاً حضارياً وإنسانياً عاماً».
وبين البدور أن أهمية «آيا صوفيا» تكمن في ما يحمله المتحف من أثر إنساني ولمسة جمالية وفنية. وقال: «عند زيارة هذا المكان، فنحن ننظر إلى الأيادي الإنسانية، التي تركت بصمتها فيه، حيث تبرز جمالية الفن والعمارة التي يتمتع بها هذا المكان، وما يتمتع به من قيمة تاريخية أهلته لأن يكون على قائمة التراث الإنساني والعالمي».
رؤى خطأ
من جهته، قال علي عبيد الهاملي، رئيس مركز الأخبار في مؤسسة دبي للإعلام: «إن إعلاء القيم الحضارية وترسيخ ما يجمع الإنسانية ويقوي لحمتها وتآزرها، هو الأساس وهو ما يجب أن تحرص عليه كافة الجهات والدول، في ممارساتها، خاصة على صعيد صون الإرث التاريخي والإنساني الذي يخدم تقارب الشعوب ومحبتها وتعايشها.
وبناء على هذه القاعدة، فمن المؤكد أن أي تجاوزات بحق معلم من معالم التراث الإنساني العالمي، هي بمثابة خطوات لا تقوي بنيان الأخوة الإنسانية..بل تهدده. ومن المسملم به أن ما حدث من تغيير وضع معلم «آيا صوفيا» الثقافي الإنساني، لا يتفق مع القوانين والمعاهدات الدولية الملزمة، ولا ينسجم مع تقاليد الشراكة الإنسانية والتقارب والتعايش.
وتابع الهاملي: «اليوم عندما يتم تغيير وضع آيا صوفيا، فإنما يعد ذلك خطوة أبعد ما تكون عن السياق الحضاري السليم، ولهذا فإن ردود الفعل الدولية جاءت لتجمع على أن هذا الإجراء مضر بالقيمة الثقافية لهذا الرمز الإنساني، استناداً إلى الموقف الثابت والاقتناع الراسخ بأن الرموز الثقافية ملك للحضارة الإنسانية جمعاء».
أما الباحث ناصر حسين العبودي فأشار إلى أنه زار «آيا صوفيا» كونه مبنى تاريخياً يعود إلى أيام القسطنطينية، أكثر من مرة. وقال: «بالنسبة لي كوني باحثاً في الآثار والتراث، أهتم دائماً بالأثر والمعلم وبشكله وتاريخه، وآيا صوفيا بناء قديم جداً، يعود إلى أكثر من 1400 عام، وهو ما يجعل منه مبنى أثرياً مهماً، يجب الاعتناء به على الدوام».
وقال: «آيا صوفيا كونه معلماً تاريخياً يمتاز بضخامة البناء، وطبيعة المواد التي استخدمت فيه، إلى جانب الدقة التي شيد بها، وهو ما يجعلنا نتأمل فيه كثيراً». وأضاف: إن طبيعة قوانين منظمة اليونيسكو، واتفاقية التراث الحضاري الموقعة في 1973، تنص على أنه «لا يجوز أن يتم إزالة أي أثر لمستعمر، وإنما يجب الاهتمام به، وأن يتم ترميمه إذا كان آيلاً للسقوط».
وأكد أهمية المحافظة على مثل هذه المباني والآثار، كونها تشكل إرثاً إنسانياً لا يمكن الاستغناء عنه.
شواهد وحكايات تاريخية
قال علي عبيد الهاملي: «يزخر التاريخ بحكايات الذين عمدوا إلى المس برموز مهمة من التراث الإنساني والحضاري، ولكن، أيضاً، بالمقابل، ولحسن الحظ، فهو يزخر كذلك بالمواقف الحضارية العظيمة لفاتحين حافظوا على هذه الرموز وحموها من الاندثار، كالآثار الفرعونية التي حافظ عليها المسلمون عندما فتحوا مصر، والكنائس والأديرة والمعابد، التي لم يتعرضوا لها عندما فتحوا العراق وفلسطين وغيرهما من الأراضي ذات الحضارات الممتدة في عمق التاريخ».