دمشق القديمة واحة خضراء، مر عليها حضارات، تعايشت معها وحفظت بصماتها، دون أن تفقد أصالتها. وتنتشر بين حاراتها معالم تاريخية وأثرية. وتتميز بطابع شرقي صمم بدقة وحرفية عالية، بينت براعة المهندسين السوريين القدماء، وحرصهم على تخليد نتاج إرثهم القديم، ويتضح ذلك جلياً في أزقتها وحاراتها وأسواقها ومقاهيها الشهيرة وأبنيتها العمرانية.

«الحواس الخمس» التقى عدداً من سكان المدينة، وتجول داخل أحياء المدينة وشوارعها وعاد بتقارير سلطت الضوء عليها..

«أشعر وكأنني لا أنتمي إلى هذا المكان»، هذا ما يقوله أحد سكان منطقة القيمرية، وسط مدينة دمشق القديمة، بعد أن رفض التصريح عن اسمه؛ لأن: «أقدم مدينة في الشرق، لم تحافظ على كيانها وملامحها، فما المشكلة إن لم تعرف اسمي».

انكسرت صورة المدينة التي عاش فيها هذا الرجل حياته منذ الطفولة: «كنا نقضي معظم وقتنا في هذا الزقاق-مشيراً إلى طريقٍ فرعي، كنا نلعب هنا إلى أن تغيب الشمس»، لكن فقدت حارته روحها بعدما عبث بها الغرباء كما يقول: «كأني ضيف حتى في منزلي، نحن محاصرون دوماً من قبل أشخاص لا نعرفهم»، وحتى جدران الحارات التي كان يحبها، تغيرت هي ورائحتها وألوانها.. كانت بسيطة وجميلة، لكنه يرى أن الحركة الاستثمارية شوّهت كل شيء.

المخطط التفصيلي

توقع هذا منذ ثلاثينات القرن الماضي، المهندس الفرنسي ايكوشار، الذي وضع المخطط التفصيلي لمدينة دمشق آنذاك، فازدياد الكثافة السكانية المحتمل في دمشق القديمة، دفعه لرسم مخطط منطقي لهذه المدينة.

يحتوي المخطط على توصيف لـ1900 منزل، لكنه يحتوي أيضاً على العديد من السلبيات، التي يمكن غض النظر عنها نتيجة غياب المخططات والوثائق الحكومية، ماعدا مخطط توجيهي أولي، يزعم أنه سيكون حجر الأساس للمخطط التفصيلي الذي تضعه محافظة دمشق، بالتعاون مع مديرية الآثار ومديرية المدينة القديمة (مكتب عنبر)، والذي سيعد مرجعاً شاملاً بكل ما يخص المنطقة القديمة في مدة يتوقع المشرفون عليه بأنها ستمتد لخمس سنوات. ونتيجة لعمليات الترميم التي يقوم بها المستثمرون في المنطقة القديمة، ستحتاج الحكومة ربما إلى وضع مخطط أولي جديد، يشمل التغيرات التي تطرأ على العقارات وعلى البنية السكانية لهذه المنطقة، التي بدأ أصحابها بالتخلي عنها؛ إما طمعاً بالمال الذي سيعود عليهم إثر بيع منازلهم، لتتحول إلى منشآت سياحية، أو نتيجة للغلاء الذي أصاب المنطقة بعد هذا الزحف من قبل المستثمرين.

عناية خاصة

لكن، بسبب إهمال السكان لبيوتهم، وعدم قدرتهم على الاعتناء بها، والحفاظ على طابعها الأثري، حسب تعبير سومر هزيم، صاحب إحدى المنشآت السياحية في المنطقة، إذ يقول: «المنزل الدمشقي في حاجة إلى عناية خاصة، لم يستطع السكان وخصوصاً الطبقة الوسطى منهم، المحافظة على منازلهم»، كما تذمر هزيم من العراقيل التي تعيق سير العملية الاستثمارية، نتيجة شكوى السكان الأصليين: «سكان المنطقة يقومون بمحاربة المشاريع الاستثمارية بطريقة أو بأخرى، بعد أن زعزعت سكينتهم، وبسبب غلاء الأسعار الملحوظ بالفترة الأخيرة»، لذلك وجد الحل بأن يتركوها ويسلموها لمن لديهم القدرة على الحفاظ عليها، الذين يقومون بتحويل المكان من مكان مهمل إلى مكان ذي قيمة على حد تعبيره.

كما أن متطلبات الحياة العصرية أسهمت بإغواء العديد من أصحاب العقارات السكنية، وشجعتهم على التخلي عنها، فالانتقال إلى منزل عصري تتوافر فيه كل الخدمات ومجهز ببنى تحتية جيدة يوفر عليهم العديد من المتاعب التي يتعرضون لها في البيوت القديمة.

زحف عشوائي

كل ما سبق، دعا أصحاب الأموال إلى بدء الاستثمار داخل المنطقة القديمة، فكان ملحوظاً في السنوات الخمس الماضية، الهجمة العشوائية نحو الاستثمار في المنطقة، ما أدى إلى رفع الأسعار قرابة ثلاثين ضعفاً للمنازل، التي يمكن استخدامها في العملية الاستثمارية، ومن جهة أخرى دعا الحكومة السورية إلى التدخل، ووضع مخططاً توجيهياً يحدد محاوراً لإقامة المطاعم و النزل.

حيث تم تعيين محاور ضمن المنطقة، على أساسها يحصل المستثمر على الموافقة لإقامة المنشأة السياحية، فقسمت دمشق القديمة إلى محاور حسب الوظيفة المرادة من المنشأة، كان أهمها: المحور الممتد من باب الجابية إلى باب شرقي (محال تجارية وسياحية)، بسبب تمركز محال الصناعات التقليدية على هذا الخط.

لكن من جهته أكد موسى عيسى أحد المتعهدين الجدد أن نسبة المنازل التي استثمرت هي قليلة جداً بالنسبة لعدد العقارات الموجود داخل سور مدينة دمشق، ولاتزال المدينة القديمة في حاجة إلى المزيد من المنشآت السياحية.

دمشق القديمة الآن تحتوي على 286 منشأة سياحية (مطاعم، مقاهٍ، نُزل)، وهناك العشرات من الرخص على قائمة الانتظار.

ومن جهة أخرى يرى الهزيم أن هذه الهجمة مفيدة، وأن لا يمكن القول بعدم وجود خطّة من قبل الحكومة: «ربما كانت الخطة خاطئة، ولكن هذا الانتشار لم يكن بشكل عبثي»، ويرى أنها مفيدة من كل النواحي: «هذه الهجمة مفيدة للجميع، فقد أدت إلى تحسين أسعار العقارات بالنسبة للمالكين، وشجعت على الاستثمار السياحي، كما أنها زادت عدد السياح، وزادت عوائد خزينة الدولة من الضرائب».

هذا بطبيعة الحال يحتاج إلى رعاية من قبل الحكومة، فالبنية التحتية السيئة في دمشق القديمة، لن تتحمل ضغط كل هذه المنشآت، فبدأت الحكومة باتخاذ إجراءات تعتبر إسعافية، كإزالة المشاغل الخاصة، وأغلقت المستودعات الموجودة داخل المنطقة القديمة حرصاً على الطرقات، ولحمايتها من أوزان سيارات الشحن والنقل، كما عملت على تحسين شبكات الصرف الصحي، أكد هذه الإجراءات الدكتور المهندس موفق دوغمان مدير المدينة القديمة: «نحاول إنقاذ البيوت التي بدأت تتهاوى تحت تأثير تسرب مياه الصرف الصحي المستمر منذ أكثر من 20 عاماً»، على مبدأ أن تصل متأخراً خيراً من أن لا تصل أبداً.

موجة الترميمات

ونتيجة لغياب الاستراتيجية الواضحة للحفاظ على معالم المدينة، يستغل المتعهدون الذين يهدفون إلى استخدام البيوت كمنشآت استثمارية، باستغلال هذه النقطة، ويعملون على تغيير شكل العقار ما يلائم الوظيفة المرادة من هذا العقار، ما يشكل عبئاً كبيراً على هذه المدينة، ويسهم في تشويه هويتها، فإذا كانت المنشأة تتجه لتصبح نزلاً، فالتغيرات التي ستطرأ على الغرف، كإنشاء مرحاض داخلي، أو تقشير الجدران لتكتسب الغرفة مساحة أكبر؛ ستؤدي إلى تغيير هوية المنزل، ولكن طالما أنه يمكن للمستثمر أن يقوم بهذه المخالفات بالتواطؤ مع اللجان المشرفة، فلا شك أن دمشق ستفقد قيمتها التاريخية مع مرور الأيام.

ومع غياب المخططات والوثائق التي تضمن المحافظة على هيكلة العقارات، واعتماد مخطط ايكوشار والذي وضع سنة 1936، سيكون من السهل تغيير المواصفات الفنية للعقارات، فمن يسعى إلى كسب المال لن يتأثر إذا ما قام بتغيير مواصفات المنزل!؟ مصلحته أن يكسب مساحة أكبر وأن يقوم بتسريع إيقاع العمل على الرغم من صعوبته، وهذا ما أكده الموسى: «إن الاستثمار بدمشق القديمة متعب جداً ويحتاج إلى تسهيلات أكبر، ولكنه ممتع لأنك تسهم في جلب السياح والزوار إلى هذا المكان» كما أضاف: «أن هناك العديد ممن استثمروا أموالهم في دمشق القديمة كان همهم الوحيد هو الربح، ودمشق لا تعني لهم شيئاً فقاموا بتشويه العقارات التي استثمروها».

وبدوره يُعزي الهزيم هذه المشكلة إلى غياب الذوق العام للترميم، وعلى الرغم من ذلك: «لايزال هناك بيوت محافظة على أصالتها من الناحية المعمارية، رغم محاولات التشويه القائمة من قبل من يقوم بالترميم نتيجة عدم إدراك ووعي كاف لما يقوم عليه البيت الدمشقي»، كما أكد الدوغمان هذه المشكلة: «لدينا مشكلة ألا وهي وعي الناس والذي لم يصل إلى المستوى المطلوب، والذي يجب السعي إلى تحقيقه».

لكن كيف لمستثمر يهدف إلى جمع المال بأسرع وقتٍ ممكن بأن يهتم بتاريخ مدينة، دون أن يكون هناك منظومة من القوانين الحكومية تحمي هذه المنطقة طالما أن: «الحكومة لم تمانع ولم تشجع، ولكنها وضعت شروطها اعتماداً على مخططات قديمة» على حسب تعبير الهزيم. ومن جهته بيّن الدوغمان: «إن صعوبة العمل تكمن بشكل أساسي في الافتقار إلى المعلومات الدقيقة اللازمة لاتخاذ القرار الصحيح، وهذا يتطلب بذل جهد أكبر لوضع المخطط التوجيهي التفصيلي».