في مقاله (بقايا يوغسلافيا) بمجلة (وجهات نظر) الصادرة في القاهرة امس, كشف الكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل عن جوانب سياسية وتاريخية وجغرافية تحكمت في الكيان اليوغسلافي وادت الى ما آل اليه الكيان في النهاية.. يشير هيكل في المقال الى مقابلة له مع ديفيد اوين وزير الخارجية البريطاني السابق والذي رشحته الحكومة البريطانية ممثلا للمجموعة الاوروبية في المحاولات الجارية لحل الازمات الناشبة في البلقان, والناشئة من انفراط يوغسلافيا السابقة, والواصلة الى حدود الحرب على نطاق يتسع يوما بعد يوم من حروب أهلية داخل عدد من جمهوريات يوغسلافيا الى حروب وطنية وعنصرية بين بعض هذه الجمهوريات وبعضها الاخر الى حروب اقليمية مع دول مجاورة لما كان في يوم من الايام دولة واحدة اسمها يوغسلافيا. ينقل هيكل جوانب من هذه المقابلة مع اوين, ويشير الى سؤال لأوين له: (كنت اريد ان اعرف هل القاهرة مهتمة بما يجري في يوغسلافيا.. ثم استدرك ربما كي يتجنب الاحراج موجها ومباشرا: (دعني اعد سؤالي: هل العالم العربي مهتم بما يجري في يوغسلافيا؟.. ثم استطرد اوين) في يوم الايام كانت للعرب علاقة خاصة مع يوغسلافيا, وكذلك الهند.. أليس كذلك؟ .. ومضى (دافيد اوين) يقول: (لم استطع قياس مدى اهتمامكم طوال الفترة التي اقتربت فيها من الازمة في البلقان ـ لكنه كان يخطر ببالي كثيرا ان علاقاتكم مع يوغسلافيا علاقة قوية.. واعرف ان ايام سياسة عدم الانحياز التي قادها (تيتو) و(ناصر) و(نهرو) في الخمسينات والستينات تغيرت عليها الازمنة, لكني كنت اظن ان قرب البلقان من مسرح الشرق الاوسط يدعوكم الى (اقتراب نشيط وفاعل) من الازمة في يوغسلافيا وقد استغربت انني لم اجد شاهدا يؤكد ما ظننت ومع ذلك فلا استطيع ان اجزم بشيء, وانما افضل ان اسمعك.. ماهي درجة الاهتمام في العالم العربي بما يجري فوق رؤوسهم مباشرة في البلقان) . رد هيكل وكانت هذه اول دورة في حواره مع اوين والذي امتد 3 ساعات كاملة.. الحقيقة انني مثلك لا اعرف, بالنسبة للحكومات العربية لا يبدو لي ان ازمة او ازمات البلقان لها مكان في اهتماماتها, واذا كان لها مكان على جدول الاعمال فأظن انه في نهاية القائمة او قرب نهايتها, واما بالنسبة للشعوب العربية فظني ان هناك قدرا من المتابعة ولكنه يصدر عن درجات من العاطفة الملتبسة دينيا او انسانيا وربما من بعيد, تاريخيا ايضا. يضيف هيكل: ثم قلت: على انني اذا اردت ان اكون منصفا فان القضية قضية يوغسلافيا او ما تبقى منها, وما هو جار في البلقان حولها, يبدو امام الجميع ــ الحكومات العربية والشعوب العربية ــ اقرب الى الالغاز المستعصية على الفهم. وينقل هيكل عن اوين قوله: كان احتمال انفراط يوغسلافيا شبحا يحوم في اجواء اوروبا الشرقية, وكان هناك كثيرون يحاولون ابعاده خوفاً من ان هذا الانفراط قد يؤدي الى انفراط دول اخرى لها نفس التركيبة.. ويروي عن جورباتشوف, آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي, انه اثناء رئاسته كان مذعوراً مما يحتمل ان يقع ليوغسلافيا, ولم تكن يوغسلافيا في حد ذاتها هاجسه, ولكن تأثير ما يمكن ان يحدث فيها على الاتحاد السوفييتي كان هو الذي يؤرقه. وبعد ان يشرح اوين لهيكل الانفراط اليوغسلافي الذي فتح ابواب المعارك بالنار.. يقول:(في كل هذا المسلسل المتواصل من الحروب تبدو امامنا ظاهرة طغت على كل ما عداها ففي معظم الازمات التي عرفتها البشرية يلعب التاريخ دوراً كبيراً في دعاوى الاطراف المتنازعة وفي نشأة ومسار الصراعات بينها او العادة ان التاريخ هو خلفية اي ازمة, لكن الذي وجدناه في يوغسلافيا هو ان التاريخ واجهة الأزمة, وهذه حالة معقدة. ويشير اوين لهيكل ببعض الجوانب الاخرى المعقدة في الأزمة اليوغسلافية.. ابرزها, ان المفاوضات التي كانت تجري اكتشفت من خلالها ان المطلوب هو التفاوض مع التاريخ قبل اي شيء وهذا معناه التفاوض مع الاموات, مع المعارك, مع القبور, اضف الى هذا تدخلات دول الجوار, ثم مطالب القوى الكبرى.. والجيش الصربي الذي كان الجيش اليوغسلافي السابق واكتشف ان حدود الدولة التي كان يخدمها ضاعت منه. بعد هذا الشرح من اوين لهيكل.. قال أوين: هل تعرف انني عندما زدت معرفة بيوغسلافيا زاد اعجابي بتيتو .. ويضيف لهيكل: انا لم أقابله.. ولكنك عرفته عن قرب ولا بد انه كان شخصية ضخمة, ويضيف أوين لهيكل:(نسيت أن اقول لك انني قرأت حديثك الطويل معه في (الصنداي تايمز) وكان ذلك ــ كما أظن ــ آخر حديث أجراه (تيتو) في حياته. ويشرح هيكل بقدر من التفصيل ظروف هذا الحوار الصحفي الذي أجراه مع تيتو قبل وفاته ونشرته الصنداي تايمز وحمل عنوانا شاعرياً (ان غناء بلبل واحد ليس كافيا لاستدعاء الربيع) وجاءت هذه العبارة التي هي مثل يوغسلافي في سياق حوار تيتو مع هيكل.. ويقول هيكل عن الزعيم اليوغسلافي الراحل:(كان تيتو دائماً وخصوصاً في سنواته الاخيرة, يفضل ان يعيش بعيداً عن العاصمة بلجراد (او (بيوجراد) اي: المدينة البيضاء) مستقراً في جزيرة بريوني وهي واحدة من أحلى الجزر عند الطرف الشمالي لساحل البحر الأدرياتيكي, والمنطقة كلها جميلة. وبعد وصف هذا الجو الشاعري للمساء الذي اجرى فيه هيكل الحوار مع تيتو, ينتقل الى الجانب السياسي في الحوار, وخصوصاً عن المستقبل ليوغسلافيا, ويقول هيكل: اظن ان المستقبل, بعده كان يخيف تيتو كإنسان وكسياسي, فقد كان (تيتو) يكره الموت, ولم يشارك قط في جنازة, ولذلك لم يحضر وداع اقرب الاصدقاء اليه في العالم: (جواهر لال نهرو) في الهند, وجمال عبدالناصر في مصر وكان عذره ببساطة وصراحة انه يتشاءم. واضافة الى الخوف الانساني من المستقبل فإن الخوف السياسي على بلده من بعده كان يؤرقه. يقول هيكل فور أن سألته عن المستقبل في يوغسلافيا قال باللغة الانجليزية التي بذل جهداً كبيراً في تعلمها وفي محاولة استعمالها في السنوات الاخيرة: (أريدك اولاً ان تعرف الحقائق السبع المهمة في يوغسلافيا, وهي أرقام متسلسلة ومتواصلة مع العدد رقماً بعد رقم. أول الحقائق كما قال تيتو لهيكل:(يوغسلافيا دولة واحدة (الجمهورية الاتحادية اليوغسلافية) اما الحقيقة الثانية, ان يوغسلافيا تستعمل ابجديتين الابجدية اللاتينية والابجدية الـ (سيريلية) وهي ابجدية يونانية الاصل تنسب الى الراهب (سيريل) الذي نشرها بين كل الشعوب السلافية. الحقيقة الثالثة, ان يوغسلافيا تتحدث بثلاث لغات هي الصربية والكرواتية والسلوفينية, اما الحقيقة الرابعة فهي ان يوغسلافيا تعتنق اربع ديانات هي المسيحية, الارثوذكسية والمسيحية الكاثوليكية والاسلام واليهودية, والحقيقة الخامسة, ان يوغسلافيا موطن لخمس قوميات هي السلوفينية, والكرواتية والصربية والمقدونية, وقومية مونت نجرو.. اما الحقيقة السادسة ان يوغسلافيا تضم ست جمهوريات في اتحادها هي الصرب, والبوسنة والهرسك, وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا او الجبل الاسود (مونت نجرو) وآخر الحقائق وهي السابعة: ان يوغسلافيا لها سبعة جيران دوليين هم ايطاليا والنمسا والمجر ورومانيا وبلغاريا, والبانيا, واليونان. ومضى تيتو في كلامه لهيكل: هذه الارقام بالتسلسل هي وصف يوغسلافيا وهي في نفس الوقت توصيف مشاكلها بما تمثله الارقام منقولة من عالم الحساب الى عالم السياسة.. وابتسم (تيتو) وهو يقول: (بعض الناس يقولون انني اول يوغسلافي في التاريخ) تم تشحب ابتسامة (تيتو) حين يضيق: (وبعض الناس يقولون انني قد اكون آخر يوغسلافي في التاريخ) .. ويقول هيكل: ان ما قصده تيتو في هاتين العبارتين ومالم تتوقف امامه في حينه: هو ان يوغسلافيا كيان صنع صنعا بعد الحرب العالمية الاولى من اخلاط انسانية من العنصر السلافي هاجروا مبكرا في التاريخ (القرن السادس والقرن الثامن) الى اقصى الجنوب وطبقا لنصوص الحديث مع تيتو للصنداي تايمز وكان يومها في الثمانين من عمره.. استطرد تيتو يقول: (انني فكرت كثيرا في مستقبل يوغسلافيا (لم يقل (بعدي) وانما تحدث عن المستقبل في المطلق, ولولا اهتمامي بالمستقبل ما كنت بقيت على رأس الدولة حتى الآن وانما كنت اعتزلت وجئت للحياة هنا طوال الوقت (لم يقل حتى آخر عمري). وواصل تيتو حديثه: (فكرت في وقت من الاوقات ان اتخلى عن المسؤولية لرجل واحد, لكن الاختيار بدا لي صعبا, فقد كان علي ان اجد رجلا يملك الحكمة ليقود البلد ويملك الجاذبية كي يقبله البلد.. احيانا وجدت رجلا لديه الحكمة دون الجاذبية, واحيانا وجدت الجاذبية ولكن دون حكمة.. واخيرا توصلت وعلى اساس مبدأ القيادة الجماعية الى فكرة انشاء مجلس للرئاسة يمثل كل الجمهوريات, ويتناوب اعضاؤه على الموقع الاول دوريا بانتظام.. وفي تعليق من هيكل لتيتو: (ان دوره الشخصي اعطى يوغسلافيا مكانة غير عادية) , وهنا رد (تيتو) عندنا مثل يوغسلافي شهير يقول: (ان غناء بلبل واحد ليس كافيا لاستدعاء الربيع) . وشرح تيتو اسباب المكانة المميزة ليوغسلافيا وتبدأ من الصورة الطيبة بمقاومة النازي في الحرب العالمية الثانية وفقدت يوغسلافيا 11% من سكانها, ثم الموقف المستقل امام ستالين, ورغم حصار ستالين الا اننا استطعنا بناء قاعدة انتاجية متقدمة, ثم انشأنا مع الهند ومصر جبهة للدول غير المنحازة. وعندما سأله عما اذا كانت هناك اغاني بلابل كثيرة تنتظر مستقبل يوغسلافيا.. قال تيتو.. عندما كلمتك عن غناء بلبل واحد لم اكن اريد ان اقلل من دوري, فأنا اعرفه, وليس عندي شك في ان جهدي كان نافعا ليوغسلافيا, وانا اقدر ان بعض الناس في المستقبل سوف يقولون اننا لم نفتح الابواب للديمقراطية بشكل واسع, ولكن دعني اؤكد لك ان الحفاظ على يوغسلافيا هو الاعتبار الاول الذي اخذته في حسابي. يشرح هيكل التحولات الدولية التي بدأت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات وما يسميه بالجراحات الجغرافية السياسية الانسانية ومشاكلها صعبة في بعض الدول لكنها في يوغسلافيا بدت الحلول بشأنها مستحيلة وكانت كوسوفو واحدة من جراحات الجغرافيا السياسية الانسانية في يوغسلافيا بما تمثله من اصول عرقية ليست سلافية مثل باقي يوغسلافيا لكنها تركية قوقازية العرق, ألبانية الجنس, واذا ارادوا الحق في تقرير مصيرهم فإن كوسوفو سوف تلتحق بمشروع ألبانيا الكبرى وهكذا تحل محل مشروع صربيا الكبرى. من هذا الجانب ينتقل هيكل الى جانب آخر وهو تشريح المجتمع الدولي, والأداة الفاعلة فيه, مشيرا الى ان يوغسلافيا كانت موضوعا مهما في الحملة الانتخابية بين بوش وكلينتون وكانت موضع اتهامات متبادلة بين الاثنين, وبعد تولي كلينتون رئاسة امريكا, رأى كلينتون ان حلف الأطلسي يملك قابلية الحياة بعد انتهاء مهمته الاصلية, ويتأكد ذلك اذا عثر الحلف لنفسه على مهمة جديدة في أزمنة مستجدة, وكان أمام الحلف منطقتين لابد من الاقتراب منهما, وهما الشرق الاوروبي (البركان النشط) وبعده الشرق الاوسط (البركان الخامد) الآن وهكذا بدأ الحلف يتوجه باهتماماته الى البلقان عموما وإلى يوغسلافيا خصوصا. ورغم كل هذه الاعتبارات يقول هيكل: ان الطبائع البشرية تعود لتؤكد سيادتها فوق كل الاعتبارات الاخرى, ويشير في ذلك الى ان القرار السياسي الصادر عن بشر حين يكون امريكيا تكون له خصائص يصعب انكارها ويصح الاعتراف بها, ويشير هيكل في هذا الصدد الى معركة اعادة انتخاب كلينتون في عام 96. كان كلينتون في موقف شديد الضعف ويكشف مدير مرحلته الانتخابية ديك موريس تفاصيل مدهشة عن تقاريره ونصائحه للرئيس الامريكي منها مثلا في مجال السياسة الخارجية في يوغسلافيا, ان موريس قال لكلينتون: لا يهم اذا كان الصرب يذبحون المسلمين أولا يذبحونهم, المهم ان يضرب ميلوسيفيتش الى ان تخرج مصارينه من بطنه, وذلك حتى يبدو بيل كلينتون امام الناس رئيسا قويا!! ويقول هيكل: ان نظام ميلوسيفيتش كان يستحق بالفعل ان يضرب حتى تخرج مصارينه من بطنه على حد تعبير المستشار الاقرب الى كلينتون, لكن كلينتون عندما قرر التدخل عسكريا في يوغسلافيا قرر على الطريقة الامريكية حرب بغير تكاليف, مع انها حرب بغير تكاليف (بشرية) فإنها حرب بغير نهاية واضحة, بغير تصور مسبق, لأن حساباتها ليست ملحة على نحو مباشر.. كان الهدف المعلن هو وقف الطرد المنظم للألبان المسلمين في كوسوفو, وكان يمكن لهذا الهدف المعلن ان يكون مفهوما, لكن المشكلة انه عندما اقتصرت العمليات على الضرب الجوي انتهز ميلوسيفيتش الفرصة ليحول الطرد المنظم الى ابادة كاملة ومعنى ذلك انه تحمل ضربة موجعة لكنه حقق هدفا كبيرا من اهدافه في كوسوفو. ويطرح هيكل السؤال الهام: ما الذي حققته امريكا من مزايا تخدم استراتيجيتها العظمى من هذه الحرب؟ يجيب هيكل: اضافت الحرب الى عقد الصرب عقدا اضافية تجعل تاريخهم في خصومة دائمة مع حاضرهم, كما ان التدخل الاجنبي سوف يضيف الى الثارات اليوغسلافية ثارات جديدة. كما انه من المشكوك فيه ان يعود مليون لاجىء ألباني خرجوا من كوسوفو اليها مرة ثانية الا اذا تحققت لهم ضمانات امن يعتمد عليها اكثر من الاعتماد على الوعود والعهود. القاهرة ـ سعيد الشحات