عام 2011 فجر البوعزيزي الشاب التونسي الذي أحرق نفسه، انتفاضة أدت إلى سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وفي العام نفسه أطلق حادث اعتقال أطفال في مدينة درعا شرارة الثورة، وفي أيامنا هذه أدى قتل المستوطنين الصهاينة الوحشي للشهيد أبو خضير في القدس إلى توتر بمثابة مقدمات للانتفاضة الفلسطينية الثالثة، كما أحدث انقساماً داخل اليمين الإسرائيلي امتد إلى الحكومة الإسرائيلية الائتلافية، بين ليبرمان العنصري المتطرف ونتانياهو العنصري الأقل تطرفاً.

وفي عام 1914 كان اغتيال ولي عهد النمسا على يد طالب صربي، شرارة أشعلت الحرب العالمية الأولى. وكثيرة هي الثورات التي انطلقت بعد حادث وقع بالصدفة، وكان يبدو دائماً وكأن الثورات انطلقت بسبب أحدات طارئة، مما يبرر طرح تساؤل ملح هو؛ هل كانت هذه الأحداث أسباباً للانتفاضات والثورات والحروب في العالم أم أنها مجرد صدف أشعلت شرارة الثورة؟

يبدو أن هذه جميعها لم تكن سوى صدف أشعلت شرارات انتفاضات وثورات وحروب، بعد اكتمال الشروط والظروف الموضوعية لانطلاقة هذه الأحداث الكبرى. وعند التدقيق في كل حالة، يبدو واضحاً أمامنا أن الصدف أطلقت الشرارات لكنها لم تصنع الثورات.

ففي حال تونس كانت البطالة والغلاء والقمع وانعدام الحريات وغياب المساواة ورفض الديمقراطية وهيمنة أجهزة الأمن على المجتمع والناس، تشكل شروطاً جدية وموضوعية للثورة في المجتمع، حيث كانت الجماهير الشعبية تئن تحت كلكلها وترفضها، وصولاً إلى رفض بقاء النظام السياسي الذي سببها، والاستعداد للثورة عليه، وكان حرق الشاب البوعزيزي نفسه، بمثابة الشرارة التي أشعلت الانتفاضة فالثورة، وصولاً ليس فقط لإسقاط الحكومة بل لإسقاط النظام برمته.

وهكذا توجت هذه الصدفة الظروف الموضوعية وكانت صدفة خير من ميعاد. وفي سوريا كانت الظروف مماثلة لما هو في تونس، إلا أن درجاتها أشد وأقسى، فقد توطّن في البلاد انعدام الحريات وغياب الديمقراطية وتفشى الفساد في أجهزة الدولة والمجتمع، ومات تكافؤ الفرص وانعدمت المساواة، وازداد النظام مركزية فصار نظاماً شمولياً بامتياز.

كما اعتبر القمع مباحاً، وصار الاعتقال لسنوات طويلة دون محاكمة أمراً مألوفاً، وصودرت النشاطات السياسية والثقافية وحراك المجتمع المدني، واستُكملت الشروط الموضوعية للانتفاضة والانفجار، فكانت حادثة اعتقال أطفال درعا وصلف أجهزة الأمن وسوء معاملة المعتقلين، مجرد شرارة أشعلت النار في الهشيم، وحركت التراكم السلبي الناتج عن ممارسات النظام طوال عقود عدة.

أما في فلسطين فلم يكن استشهاد أبي خضير بدوره، سوى شرارة فتحت الباب ليعبّر الفلسطينيون عن مواقفهم وآرائهم، فقد طغت السلطة الإسرائيلية وبغت، ومارست العنصرية بأوسع أشكالها في الأراضي المحتلة، وعطلّت المفاوضات، ولم تقبل أي تراجع عن سياستها العنصرية الاستعمارية التوسعية واستهانتها بالشعب الفلسطيني وبواقعه ومستقبله وأملاكه وأرواح بنيه، بل تجاهلت وجوده، ووضعت قائمة طويلة من المطالب مقابل لا شيء تقدمه، ورفضت أي تراجع عن موقفها بتجاهل الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ومطالبه.

وبلغ الصلف درجة غير معقولة، منها اعتراض الحكومة الإسرائيلية على المصالحة الفلسطينية، بل أصيبت بالسعار والجنون عندما توصل الفلسطينيون إلى اتفاق مصالحة، وهكذا لم ينقص اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثالثة سوى شرارة قد يكون استشهاد أبي خضير سبباً في انطلاقها.

وفي عام 1914 كان اغتيال ولي عهد النمسا الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى بين التكتلين الاستعماريين العالميين، تكتل المركز برئاسة ألمانيا وهو نفسه تقريباً الذي سُمي المحور في الحرب الثانية، وتكتل التحالف برئاسة إنجلترا وهو الذي سمي الحلفاء في تلك الحرب، وكانا يتنافسان على استعمار الشعوب، وما برحت الدول الأخرى أن انضمت لإحدى التكتلين، حيث تصاعد التوتر والتهديد وبلغ العداء بينهما درجة كبيرة، وكانت الحرب تحتاج لشرارة قامت حادثة الاغتيال بتقديمها.

على الجانب الآخر يجمع الدارسون من علماء الاجتماع والسياسة، على أن ممارسات الأنظمة السياسية الخاطئة والقمعية ورفضها للحريات والديمقراطية وتفريقها بين أبناء المجتمع وتجاهل معايير الدولة الحديثة وشموليتها وتفردها بالسلطة، تؤدي حتماً إلى توتر واحتقان لدى المجتمعات والشعوب، وإن لم تقم الأنظمة بتعديلات وإصلاحات لهياكلها وبرامجها وأساليب تعاملها مع شعوبها، فستتراكم هذه التوترات والاحتقانات وتنمو حتى تصل إلى إحداث الانفجار الذي لا يحتاج سوى لشرارة فقط، وإن لم تحدث الانتفاضة أو الثورة أو الانفجار، فإن الشعب سوف يؤيد أو ينتسب إلى أي تنظيم أو مجموعة أو تيار سياسي يعمل ضد السلطة القائمة والنظام السياسي والاجتماعي المهيمن.

وربما يلقي هذا ضوءاً على نمو وتأييد حركات الإسلام السياسي المعتدلة والمتطرفة، على حد سواء، التي تحولت إلى حركات إرهابية، لا هدف واضحاً لها سوى الممارسة الوحشية في التعامل وقتل الناس دون محاكمة، بل دون مبرر وبأسباب واهية، وإلقاء المتفجرات على تجمعات المدنيين العُزّل، والزعم بإحياء الإسلام والخلافة الإسلامية في شروط ليست شروطها وعالم ليس عالمها، مما شوه الإسلام والتاريخ الإسلامي أيضاً، ولعل ما نشهده اليوم لدى بعض الشرائح الاجتماعية العربية، هو هروب من الرمضاء للنار.

وفي الخلاصة نقول إنه لم تكن هذه الثورات والانتفاضات جميعها نتيجة حادث عارض أو صدفة قدمها هذا الحادث، وإنما بفعل شروط وظروف موضوعية توفرت في المجتمع، وكانت بمثابة مقدمات للأحداث الكبرى التي جاءت الصدفة لتطلق شرارتها.