الحديث عن الديمقراطية هو حديث عن الاستجابة لصوت المواطنين في كل ما يتعلق بالقضايا العامة، وبعبارة أخرى هو الاستجابة لمطالب الأغلبية من الشعب أو ما يطلق عليه الرأي العام، فما «الرأي العام»؟
هل هناك تعريف محدد ومتفق عليه للوصول إلى هذا «الرأي العام»؟ هناك الانتخابات، حيث يختار المواطنون ممثليهم في البرلمان..
لكي يكونوا صوت الشعب فيما يصدر من قوانين، أو للقيام بأعمال الرقابة على السلطة التنفيذية، وهناك الاستفتاءات على قضايا محددة، وهناك قياسات «الرأي العام» عن طريق استقرار عينات من الأفراد، بافتراض أنهم يمثلون المجتمع بكل تنويعاته. فهناك، والحال كذلك، وسائل متعددة لاستخلاص «الرأي العام» فهل هذا كاف، وهل هو دقيق للتعبير عن «الرأي العام»؟.
لا أقصد هنا الإشارة إلى أن الانتخابات قد لا تكون نزيهة سواء بالتدخل بالأموال لشراء الأصوات أو غير ذلك من مظاهر العبث أو التزوير في العملية الانتخابية، ولا حتى أريد الإشارة إلى تغلب العصبيات والنفوذ العائلي في الأوساط الريفية بصرف النظر عن المواقف السياسية. ولكن ما أود التركيز عليه هو أن هناك اختلافاً نوعياً بين طبيعة «الرأي الفردي أو الخاص» وبين «الرأي العام»..
فعندما تسأل شخصاً، تثق فيه وفي صدقه، عن رأيه في قضية معينة، فمن الطبيعي أن تعتقد أن ما يقوله هو بالفعل «رأيه الخاص»، ويعتبر هذا في نظرك «حقيقة موضوعية»، وذلك بصرف النظر عن رأيك الخاص في الموضوع والسؤال، هل يمكن أن ننظر إلى «الرأي العام» ـ كما تم التعبير عنه في الانتخابات أو الاستفتاءات أو من مختلف أساليب قياس «الرأي العام» - باعتباره أيضاً حقيقة موضوعية؟ هذا هو السؤال.
وأود في هذا المقال أن ألخص رأي أحد علماء الرياضة والإحصاء حول مفهوم «الرأي العام»، من وجهة نظر الرياضة البحتة والإحصاء ففي كتاب حديث لأحد علماء الرياضة ـ جوردان إلينبرج وهو أستاذ الرياضة في جامعة وسكنسن/ ماديسون بالولايات المتحدة، وقد صدر هذا الكتاب منذ نحو سنة، وعنوانه «حتى لا نخطئ»، واعتبرته صحيفة النيويورك تايمز أحد أهم الكتب الأكثر مبيعاً، ماذا يقول إلينبرج عن مفهوم «الرأي العام»؟
يخصص إلينبرج، الفصل السابع من كتابه بعنوان غريب «لا يوجد شيء اسمه الرأي العام». وقبل أن نستعرض رأيه، فمن حقنا أن نتساءل وما شأن أستاذ للرياضة بقضية «الرأي العام»؟ أليس هذا موضوعاً للسياسة والقانون. فما شأن علماء الرياضة بهذا الموضوع؟
ولا شك أن لكل فرد آراء في معظم ما يقابله من أمور، وهذا أمر واضح ولا خلاف عليه، وغالباً ما يكون رأي الفرد، في موضوع معين، متسقاً مع بقية آرائه في العديد من الأمور المتصلة به. ولكن عندما ننتقل من «رأي الفرد» إلى «الرأي العام»..
فإن هذا يتم من خلال «متوسط» آراء الجماعة أو كما نعبر عنه «عينة» منهم، فالحديث عن «الرأي العام» هو بالضرورة حديث عن «متوسط إحصائي» أو رأي «عينة» بافتراض أنها تمثل الغالبية ومادمت نتحدث «عن المتوسط» أو «العينة» فإننا نتحدث عن الإحصاء ودرجات احتمالها.
وعلى ذلك، فإذا كان «الرأي الخاص» حقيقة موضوعية، فإن «الرأي العام» هو بالدرجة الأولى تقدير إحصائي لنتائج «عينة» معينة أو «لمتوسط إحصائي» وبالتالي احتمالي.
ما نطلق عليه «الرأي العام» هو في نهاية الأمر مفهوم «إحصائي» يختصر الثراء المتنوع والمتعدد للآراء في رقم واحد. ولذلك، فإنه ليس غريباً أن يخصص أحد علماء الرياضة فصلاً كاملاً من كتابه عن «الرياضة» لمفهوم «الرأي العام» فالحقيقة، أن «الرأي العام» ليس فقط مفهوماً سياسياً، بل انه أيضاً«حقيقة إحصائية»، ولذلك.
فليس غريباً أن تختلف النتائج عن «الرأي العام» وفقاً للنظام الانتخابي أو شكل العينة.
فالانتخابات بالقائمة والأغلبية النسبية تؤدي عادة إلى نتائج مختلفة عن الانتخابات الفردية والأغلبية المطلقة. فقد لوحظ مثلاً أن الدول التي تأخذ بأسلوب الانتخاب بالقائمة، يصعب فيها تكوين حكومة أغلبية، وفي مثل هذه الأحوال، فإن الأمر يتطلب عادة تحالفاً سياسياً بين عدة أحزاب لتكوين الحكومة.
وعلى العكس، فإن احتمالات حصول أحد الأحزاب على الأغلبية تكون أكبر في نظم الانتخاب الفردي. فمثلاً تأخذ كل من بلجيكا وإسرائيل بنظام الانتخاب بالقائمة، ولذلك يصعب فيها حصول أحد الأحزاب على الأغلبية المطلقة. وبذلك تشكل الحكومات فيها بائتلاف عدد من الأحزاب في حكومة ائتلافية..
وفي بعض الحالات ـ كما في إسرائيل ـ فإن الأحزاب الكبرى والأكثر أهمية لا تستطيع بمفردها أن تحصل على الأغلبية المطلقة، نظراً لأن الانتخابات فيها تقوم على القوائم النسبية، بما يؤدي إلى تعدد كبير في الأحزاب الممثلة في البرلمان، حيث يكفي الحصول على نسبة صغيرة من الأصوات لدخول البرلمان بعدد قليل.
ولذلك تضطر الأحزاب الكبرى والأكثر أهمية إلى الائتلاف مع بعض أحزاب الأقلية ـ والتي رغم حصولها على مقاعد محدودة في البرلمان ـ فإنها بانضمامها إلى هذا الحزب أو ذاك، فإنها تمكنه من توفير الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة. ولذلك تصبح هذه الأحزاب الصغيرة، هي القادرة على ترجيح الميزان لصالح هذا الحزب أو ذاك بين الأحزاب الكبرى. ولذلك كثيراً ما يطلق على هذه الأحزاب الصغيرة بأنها «صانعة الملك».