لم أرَ ثراء في المعنى وفي الصدق والسخرية، لباساً أكثر من الجينز في حياة البشر على مختلف أعراقهم وطبقاتهم، فيلاطف الفقير لأنه بسيط وقوي، فيبقى معهم بقطعته نصف العمر أو أكثر، فهو يقاوم العرق والأوساخ، ولا يبلى بسهولة.. دافئ في الشتاء بارد في الصيف، فيه من التصاميم والألوان وتشكيلاتها العجب العجاب.

وهو كذلك صديق الغني، باعتباره محفزاً للفت النظر وإثارة الاهتمام، ينفض عنه ثراءه، ويصفه بالتواضع والانفتاح على الفقراء والطبقات الدنيا. إذا ارتداه الفتى امتلأ بعمره وشبابه، وأما الكهل فيرفل بلباس التصابي والروح الوثابة. خصوصاً إذا قام أحدهم بالجمع بين الجاكيت الرسمي والجينز الأزرق الباهت المعلّق بشريط حمالته على الكتفين.

في منتصف القرن التاسع عشر، وَجد الأميركي من أصول ألمانية «ليفي شتراوس»، حلاً لملابس الصيادين سريعة الاهتراء والتمزق، بأن خاط لهم ملابسهم من أشرعة السفن السميكة، وازدهر في صناعته، لتشمل عمال المصانع ورعاة البقر والمهن الأخرى.

ولعشرات السنين، ارتبط الجينز بالطبقة الكادحة ذات الأعمال اليدوية والمهنية، إلى أن تحول إلى لباس يشتهيه عامة الناس، وصعد الجينز طبقة فطبقة، إلى أن غزا صالات عروض الأزياء للجنسين، بل وصُمّمت منه الأكسسوارات وأشياء أخرى، مثل الأحذية والحقائب والأحزمة وغيرها.

يكاد يكون الجينز الوحيد من الألبسة الذي لم يفقد روحه التي على أساسها تم ابتكاره، وقد أظهرت موديلات السنوات الأخيرة، مدى ثراء وحيوية هذه الروح التي لم تشهد في تاريخه هذه الجرأة في التحديث. فعلى مدى عشرات السنين، كان التغيير فيه لا يتعدى أن يكون في القطع والقص واللون، وإحداث التعديلات التي تتطلبها الموضة العالمية والاتجاهات التجارية العالمية.

ولكن في الخمس عشرة سنة الأخيرة، أو أكثر بقليل، شهدنا ما لم نكن نتوقعه، الجينز الموشح بالبياض والموحي بالاهتراء، والممزق أو المرقع والمكرمش والمبهدل والباهت، والمشرشر، والمخطط والمرصوص بالأحرف والعبارات، وحتى الملطخ ببقع الزيت والدهانات والألوان، وغير ذلك.

وأشد ما أفادني شخصياً، عندما رأيت الكثير من الناس يُقبلون على موديلات الجينز الممزق والمرقع، أنني لحظتها استطعت أن أتخلص من عقدة الملابس الممزقة في صغري أو المرقعة، حيث كان إذا تمزق بنطال الجينز، يعني علقة ساخنة سيأكلها الولد المشاكس من أمه، وسُيَعاقب أيضاً بارتدائه بنطاله مراراً مرقعاً أو حتى ممزقاً، كي يحرص في المرات الأخرى على احترام الملابس وإبقائها نظيفة وسالمة، حتى ولو كان جينز.

وعُرِف عن الجينز قدرته على قهر الرسميات، وبناء الجسور بين الناس، باعتباره لباساً ودياً وبسيطاً. وقد ارتداه المرشحون والخطباء في حملاتهم الانتخابية، وبعضهم من كان صادقاً، وكثيرون من استغلوه مخادعين ومنافقين، وارتداه الرؤساء في لقاءاتهم الودية، إشارة منهم إلى كسر جمود الرسميات وفتح باب الصداقات الاجتماعية.

واستطاع الجينز أن يعمق الوعي الجمعي العالمي، والودي بأنه أقرب إلى طبيعة البشر، وأنه رمز للحرية والعدالة الاجتماعية، ونيل الحقوق للطبقة الفقيرة الكادحة، وأن من يرتديه في المحافل العامة، يقترب من الناس أكثر، ويعبر عن همومهم، وحتى فقرهم وديونهم.

وكثير من أثرياء العالم يحبذون ارتداءه عند مخاطبة الجمهور أو الترويج عن منتج أو اختراع ما، كما هو الحال عند بيل غيتس ومارك زوكربيرغ، حيث يفضلونه على الملابس الرسمية، ومن قبلهم الراحل ستيف جوبز، الذي غالباً ما ظهر بالجينز البسيط.

وبعد ما يزيد على قرن ونصف على اختراع الجينز، لم يهدأ عن التطوير والتحديث والنهل من روحه الوثابة، سواء كان بنطالاً كاملاً أو «شورتاً» مثيراً أو ممزقاً قصيراً متوحشاً، أو حتى مهترئاً متسخاً..

والعديد من المصممين والمبدعين العالميين صرحوا بأنهم محبطون مع كل نجاح يحققه الجينز، لا لشيء، إلا لأنهم لم يحظوا بفرصة اختراعه واكتشاف خيوطه على أشرعة إبداعهم، كما فعل الألماني الأميركي «ليفي شتراوس»، فأنتج علامته التجارية الشهيرة LEVI’s، وجنى ثروته الطائلة من خياطة جينز الفقراء والعمال.