في واحد من ردود الفعل العصبية التي شملت إسرائيل، إثر صدور قرار المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في منتصف هذا الشهر، الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق، ويعتبرهما تراثاً إسلامياً خالصاً، أعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني «بنيامين نتانياهو» أنه سيشارك بنفسه في نقل الأتربة التي تتخلف عن عمليات الحفر التي تجرى أسفل المسجد الأقصى بحثاً عن هيكل النبي سليمان، ودعا «نتانياهو» الجماهير اليهودية إلى الانضمام إليه، وقررت حكومته اعتبار مشاركة الشباب الصهيوني في هذه الحفريات جزءاً من فترة تجنيدهم في جيش الدفاع الإسرائيلي.

ويأتي ما أعلنه «نتانياهو» ليكون موجة من موجات العاصفة المجنونة التي شنتها إسرائيل، بمجرد صدور قرار اليونسكو، وشملت سلسلة إجراءات وقرارات، كان من بينها تجميدها لعضويتها بالمنظمة الدولية التي لم تنضم إليها إلا عام 2010 - وحظر نشاطها فيما تعتبره أراضيها، وإصرارها على حق مواطنيها في الصلاة أمام «حائط المبكى» - وهو الحائط الغربي للمسجد الأقصى - باعتباره جزءاً من «هيكل سليمان» الذي يصر الصهاينة على أن المسجد قد بني فوق أنقاضه، ويعتبرونه الدليل الشرعي اليهودي أن لهم حقاً تاريخياً في أرض فلسطين.

ولا تعود أهمية القرار الذي اتخذته اليونسكو فحسب إلى أنه يدمر إحدى الأساطير المؤسسة للحركة الصهيونية، بل تعود كذلك إلى أن نصوصه ترتبط على نحو ما، ببعض بنود التسوية النهائية للصراع العربي الإسرائيلي، التي لا تزال محل خلاف أدى إلى تعثر خطواتها، إذ تقضي بأن تعود الأوضاع في المسجد الأقصى والآثار الإسلامية والمسيحية في القدس الشرقية إلى الإدارة الأردنية، التي كانت تتولى شؤونها قبل الاحتلال الإسرائيلي لها أثناء عدوان 1967، إذ لا توجد في المدينة آثار يهودية يجوز لإسرائيل إدارتها، أو اقتسام السيادة عليها مع الفلسطينيين، تنفيذاً للاقتراح الإسرائيلي المضحك، الذي كان يطالب بأن تكون هناك سيادة للدولة الفلسطينية فوق الأرض تشمل المسجد الأقصى وسيادة لإسرائيل تحت الأرض تشمل هيكل سليمان.

على امتداد ما يزيد على 65 عاماً على النكبة، حرص الفلسطينيون على أن يحافظوا على ذاكرتهم الوطنية، وعلى تراث وطنهم، والذي يزور منازلهم المؤقتة في المخيمات وبلاد الشتات، يلاحظ حرصهم على ألا تنسى أجيالهم المتتالية رائحة الوطن بأزيائه وأطعمته وأهازيجه وأغانيه وجنائزياته، ويحتفظون بمفاتيح منازل كانت لهم في كل المدن والقرى التي عاشوا فيها إلى أن دهمهم الغزاة في عام 1948، وأجبروهم على الرحيل من أرضهم، في انتظار اليوم الذي يتحقق لهم فيه حلم العودة أو يتحقق لأحفادهم، فيعودون إلى بيوت لا يزالون يحتفظون بمفاتيحها.

وقد لا يجد بعض العرب والمسلمين أهمية للقرار الذي اتخذته اليونسكو، فما أكثر القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وقبلها عصبة الأمم، لصالح الفلسطينيين: من قرارات وقف الهجرة إلى قرار التقسيم إلى قرار العودة، إلى القرارين 224 و338... إلخ.

ومع ذلك ضرب الصهاينة عرض الحائط بهذه القرارات، ولم ينفذوا شيئاً منها، ولم يجد المجتمع الدولي ما يدعو لإجبارها على أن تنفذها.. ولعل هذا هو ما شجع «نتانياهو» لكي يعلن عن افتتاح أسبوع تعفير وجه اليونسكو بالأتربة، على أن يبدأ حملته لجمع الأنصار لإلغاء القرار.. وكل ما أتمناه ألا يسلم العرب والمسلمون هذه المرة، بأن هذا أمر طبيعي، وأن يخوضوا المعركة ضد إلغاء هذا القرار بكل ما تبقى فيهم من قوة، لعل ذلك ينقذهم من النيران المشتعلة فيهم وبينهم ومن حولهم من كل مكان، وينبههم إلى أن هناك ما يستحق الالتفات إليه غير ما يمارسونه من تخريب في أوطانهم.