قال أحد المصوّرين المحترفين الذين خاضوا غمار تخليد اللحظة اليائسة عند البشر في الكوارث الطبيعية والمجاعات ومناطق النزاعات، قال:
لا أريد أن أموت متهوّرا صريع اللحظة لأجل التقاط صورة، أريد أن أحيا حتى نهاية العُمر لأخلّد المزيد من لحظات البؤس والشقاء في العالم، أريد أن استغل عمري بكل دقيقة ممكنة لتحقيق المزيد من تخليد الواقع الصارخ مستدركاً، إنه رأى الموت يعانقه غير مرة إمّا غرقاً أو رصاصة طائشة أو قناصاً أخطأه، أو قُطّاع طُرق وجدوه مفلسا إلا من كاميرته فاستولوا عليها ليعود ويتقصى ويستعيد كنزه من الصور المخزنة مقابل مبلغ من المال... المهم انه استعاد الخلود في صوره المسروقة وليست كاميرته.
إن إغواء اللحظة عند المصوّر تأتي مثل البرق الذي يأتي بلا تحذير الرعد، وكم من برق صورة تلاه رعود أيقظت فينا أحاسيس وزلزلت دواخل، وذكّرتنا بما نسيناه عن أنفسنا أولاً. فلا تتهور أيها المصور المغامر، فبعضهم سيتذكرونك فقط في تلك الصورة التي قتلتك أو حتى شنقتك منتحرا.
فانهض إلى زاوية عصيّة وهضبة أخرى وحاصر الموت بالحياة والعقل وأن ثمة تعابير تائهة وضالة تنتظرك كساموراي تمرّد ورفض الانتحار وبقي رافعا عنقه ليرى أفقاً جديداً في هذه الحياة. موتك أيها المصّور المحبط لا يجدي نفعاً سوى أنك شهيد اللحظة التي لو عدت لما تمنيت لتكون الأخيرة.
فأحضن موهبتك كريشة طاووس طارت من قوس قزح نثرت الحياة بعد ذبول الرياح، واقبض على كاميرتك كمن يَمُدّ حياته بمدى عينيه في عدسته.يا ليتك يا صديقي تنهض من صورتك، وتسقط من شجرة الموت الآدمي لتعلن للعالم أن الخطأ في غواية الموت تقتل فسحة العمل والأمل لحياة وجدت لتبقى ولا تفنى حتى مع صرخة الصورة وقسوتها، فبالموت نعرف الحياة.
ينام المصوّر يائساً حزيناً لما التقطته عيناه في الليلة الماضية، يغرق في كابوسه فينهض نائماً مغمغماً، ويتفق اليائس مع الوحش الجاثم على صدره أن يصعدا إلى سقف البيت فيموت الوحش في كابوسه ويتحرر الحالم المكلوم من الجاثوم الذي يخنقه ويحاصره كأخطبوط.
على حافة الهاوية استيقظ المصور من كابوسه، تراجع الوحش عن اتفاقه وفضّل البقاء حيّا في كوابيس المبدعين المعذبين في الأرض، أما المصوّر فتذكّر كابوس الواقعية الذي يحيا في كاميرته مع كل صورة، لم يقوَ أن يعيش مع جاثومه أو حتى يعود إلى كابوس يومياته.
انتحر المصوّر وبقي الوحش طليقاً يلهو، يختفي ويظهر ويتماهى أمام عدسات المصورين كقرد خفيف الحركة ثقيل الظل يتناسل كشبح مع كل مصيبة وكارثة، يموت المصوّر وتبقى الصورة.
لقد انتحر كيفن كارتر، الصحفي الجنوب إفريقي في عمر الثالثة والثلاثين بعد أشهر من فوزه بجائزة بولتزر العالمية للتصوير عن صورة المجاعة في السودان حيث ينتظر طائرٌ جارحٌ طفلا جائعا برزت عظامه جاثما على الأرض وحيدا ينازع الموت على بعد أمتار من الطائر المتأهب وسط أرض قاحلة.
هذا هو كيفن، ماذا لو أنك نزعت عنك الوحش الجاثم على صدرك وقتلته وبقيت حيّا بيننا تقدم المزيد من صور الحياة المؤلمة والمرّة، حتماً لكنّا تعلّمنا الكثير وعرفنا الأكثر ليس عن الطفل الجائع والطائر الجارح، وإنما عن القاتل والقتيل في كل واحد منا. انتحر كيفن بعد ثلاثة أشهر من فوزه بالجائزة، برسالة نقتبس بعضها: «أنا آسف جدا جدا.
لكن ألم الحياة يفوق متعتها بكثير لدرجة أن المتعة أصبحت غير موجودة، تطاردني ذكريات حيّة من عمليات القتل والجثث والغضب والألم، لأطفال يتضورون جوعاً....».
وليس مهّما هنا إن عاش الطفل أو طار الجارح، فثمة ألم قد تجاوز النهايات بواقع لحظته، وسرُّ الصورة أنها دائما تبوح ليس فقط بالمشهد، ودائما نفتح في نسيج المشهد الثغرات لنعرف أكثر ونتعلم أكثر، وكم من صورة فاضت معانيها ليس لمجرد الصدفة حضرت الكاميرا في المكان الصحيح والزمن الصواب والحدث الاستثنائي.
وإنما لأن ذلك المصوّر المبدع قد رأى ما لا يراه الآخرون، وأنه قد صَنَع الحدث بعينه اللاقطة واللاذعة في كثير من الأحيان. فخير المبدعين من التقط الصدفة التي لا يراها الآخرون بيننا، فالصدفة قد تكون التلاقي الواضح بين عنصرين يولدان حدثا جديدا فيه مفارقة، ولكنها تكون أعمق وأكثر تأثيرا إذا كانت عناصرها خفيّة ونتائجها صارخة ومستفزة بعدسة المصوّر.