عُرفت دبي في الماضي باسم «الوصل»، ولأن الوصل محبة وفرح، جمعت حول خورها قصص الشعوب.. كبرت، وامتد شعاع نورها ليملأ الأرض.. سلمت، فعاش من فيها وئاماً، وأبدع وازدهر ونما كل من أعطى هذه الأرض، فأعطته دفئاً وحضناً وأملاً.
لقد آمنت دولة الإمارات العربية المتحدة منذ البدء بالعيش المشترك وقيم التسامح وتقبل الآخر، فصارت بيتاً لأكثر من 186 جنسية تمثل 150 قومية وتستعمل 100 لهجة. ويمكنكم هنا تخيّل مشهد التفاعل الثقافي والإثراء المعرفي الحاصل على هذه الأرض الطيبة، التي باتت دون شك نقطة التلاقي الأولى بين الشرق والغرب، حيث يعلو صوت الحوار الحضاري على باقي الأصوات الهدّامة، باعثاً أملاً جديداً في نهضة ثقافية جامعة كفيلة بنشر الخير للإنسانية.
وفي الوقت الذي نالت فيه دبي عن جدارة واستحقاق الإشادة الدولية تلو الأخرى بنهجها التنموي ومسيرتها في الانفتاح والتطوير، علينا أن نقف معاً مرة أخرى ونستذكر أن خلف هذا العمران وتلك النهضة الثقافية تقف رؤية ثاقبة لشخص بات قدوة للملايين من الشباب الطامح في هذا العالم: صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله؛ فمع البنيان المتين الذي أرساه سموه في قطاعي الاقتصاد والأعمال، نشأت بالضرورة بنية مواتية للإبداع، فازدهرت الثقافة والفنون، وباتت صنواً لمفهوم السعادة الذي تعمل حكومتنا على ترسيخه في شتى أشكال عملها؛ من أبسط تفصيل في قطاع خدمة المتعاملين، إلى سن القوانين والتشريعات التي ترمي في مجملها إلى التحسين المستمر لمستوى معيشة المواطنين والوافدين، إلى إسعادهم في كل ما يحيط بهم.
وفي هذا السياق، يأتي موسم دبي الفني كأحد تجليات تلك اليقظة الثقافية بالتزامن مع عام المغفور له بإذن الله تعالى الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه؛ إذ جمع أهل إمارة دبي وضيوفها ليحتفلوا معاً بثقافات الشعوب وإبداعاتها، فكان «سكّة» و«آرت دبي» و«ليالي الفن» في قرية البوابة، مع «معرض الشرق الأوسط للأفلام والقصص المصورة» و«معرض دبي الدولي للخط العربي» و«مهرجان طيران الإمارات للآداب»، فكانت الحصيلة أن تحولت دبي إلى متحف مفتوح على امتداد شهر كامل، لتجسد روح التسامح وحوار الثقافات، وليستقبل الموسم ما يزيد على 170.000 زائر عبر جميع هذه الفعاليات والمهرجانات من داخل الدولة وخارجها.
أرقام ودلالات
باتت الأرقام عنصراً مهماً في هذه الصناعة، فعلينا الانتقال من دوامة الاقتناع بجدوى الثقافة في رفد عجلة الاقتصاد إلى مرحلة صناعة اقتصاد إبداعي أكثر كفاءة واستدامة: اقتصاد قائم على الشراكة والتنوع في الإنتاجية.
وفي نظرة سريعة إلى أحد الأمثلة الناجحة في هذا السياق، يمكننا أن نرى كيف ساهمت الصناعات الإبداعية بما يزيد على 84 مليار جنيه استرليني (ما يعادل 432 مليار درهم إماراتي) في اقتصاد المملكة المتحدة، ووظفت 2.9 مليون نسمة (9٪ من جميع الوظائف في المملكة المتحدة) وصدَّرت ما يقرب من 20 مليار جنيه استرليني (102 مليار درهم) من الخدمات في العام 2014 فقط، وفق إحصائيات «المجلس البريطاني».
أما في منطقتنا فقد خلص تقرير «آفاق التصميم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2014 –2019»، الصادر عن مجلس دبي للتصميم والأزياء، إلى أن القيمة السوقية لصناعة التصميم في المناطق التي يغطيها التقرير قد تجاوزت 100 مليار دولار أميركي (367 مليار درهم) في العام 2014، وهي تشهد نمواً مطّرداً بمعدل ضعف سرعة نمو القطاع عالمياً.
وبدورنا، عملنا على مدار العامين المنصرمين في «هيئة دبي للثقافة والفنون»، وبالشراكة مع بلدية دبي ودائرة السياحة والتسويق التجاري في دبي، على مشروع إعادة إحياء منطقة دبي التاريخية، بهدف تحويلها إلى وجهة ثقافية فريدة تحكي تاريخ وموروث دبي على امتداد أربعة أحياء تاريخية مهمة هي: الشندغة وبر دبي والفهيدي وديرة. وستشهدون قريباً أولى ثمار هذا العمل الدؤوب مع افتتاح مشروع متحف الشندغة، ليروي عبر سرد تفاعلي مبتكر تراث دولة الإمارات العربية المتحدة وإرثها الإنساني.
كما ستشهدون قريباً افتتاح مكتبة الصفا للفنون والتصميم، والذي يعتبر تتويجاً لجهود الهيئة على مدار عامين في تطوير مشروع متكامل ينتقل بالمفهوم التقليدي للمكتبات إلى بعد آخر، حيث ستخصص 70% من مساحة المكتبة للبرامج والمعارض الفنية ومساحات للعمل المشترك والاجتماعات، بينما تخصص النسبة المتبقية للكتب ومساحات القراءة.
ثقة واقتدار
وبالعودة قليلاً إلى مخرجات الربع الأخير من العام الفائت، والذي شهد إقامة النسخة الثانية من «أسبوع دبي للتصميم» على أرض «حي دبي للتصميم» واستقطب ما يزيد على 60 ألف زائر، يمكننا الجزم بأن دبي تمضي بثبات نحو تموضعها كوجهة رئيسية لقطاع الصناعات الإبداعية في الشرق الأوسط؛ إذ شهدنا 200 فعالية عمّت أرجاء دبي، وتسليم «جائزة التقدم» من معرض الخريجين العالمي، وتعرّفنا إلى 150 عارضاً في «داون تاون ديزاين».. كل ذلك في خضم لحظة تاريخية شهدتها دولتنا مع افتتاح رمز عالمي للتسامح يروي للمرة الأولى من أرض عربية رحلة الإنسانية: «متحف اللوفر أبوظبي».
أما في الربع الأول من العام الحالي، فقد كلّف معرض «سكّة» الفني في عامه الثامن ما يزيد على أربعين فناناً ناشئاً لإنتاج أعمال جديدة في مجال الفنون البصرية، رافعاً عدد المنح الإنتاجية التي قدمها منذ تأسيسه إلى ما يقارب الـ400 منحة لفنانين ومبدعين يعيشون على أرض هذا الوطن المعطاء وفي منطقة الخليج العربي.
وقد رأينا كيف شقّ العديد منهم طريقهم نحو العالمية، فمثلوا دولة الإمارات أفضل تمثيل في المحافل الدولية، ومن بينها أبرز تجمّع عالمي للفنون: بينالي البندقية الدولي للفنون.
وقد شهد «سكّة» هذا العام إقبالاً منقطع النظير من الجمهور فاكتظت سكك حي الفهيدي التاريخي بـ45.000 زائر على مدار أيام المعرض العشرة، والفضل هنا يعود للتقدّم الملحوظ في سوية الأعمال المشاركة إلى جانب التنظيم المتميز الذي قامت به فرق الهيئة والمتطوعون معنا.
وبالطبع، لا بدّ لنا من الحديث عن معرض «آرت دبي» الذي استقطب 105 صالات عرض عالمية من 48 دولة، بالإضافة لممثلين عن 106 متاحف ومؤسسات ثقافية. كل ذلك، لهو إثراء للمشهد الفني والثقافي في الدولة، وشهادة عالمية بالدور الذي باتت تضطلع به دبي على خارطة الثقافة الدولية.
«خطة دبي 2021»
والآن، كيف لنا أن نحقق ذلك الانتقال السلس من البنية التقليدية في العمل المؤسسي الثقافي نحو الممارسات الذكية التي من شأنها تسريع مؤشرات الأداء؟ ما دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في القطاع الثقافي؟ وهل هي بالفعل شريك مستدام للقطاع؟ ما هي السبل التي يمكننا من خلالها إشراك الشباب في سعينا نحو اقتصاد إبداعي أكثر استدامة؟ هل بإمكاننا القول إننا تجاوزنا ثقافة الفعاليات الموسمية وبتنا فاعلين على مدار العام؟ ما هو حال الفنانين والمبدعين محلياً مقارنة بنظرائهم عالمياً؟ هل وفرنا لهم البيئات المناسبة للإنتاج؟ ما الذي ينقصهم؟
من المفيد دائماً إجراء مراجعات شاملة بعين نقدية —نقد الذات بهدف تعميق التجربة واستشراف المستقبل. وعليه أجدد القول إنه ما زال أمامنا الكثير لننجزه، فحين أنظر إلى الركائز الست الرئيسية لـ«خطة دبي 2021» التي أطلقها والدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وهي: الأفراد، والمجتمع، والتجربة المعيشية، والمكان، والاقتصاد، والحكومة –يترسخ اعتقادي بأنْ لا بديلَ عن التحلي بروح التعاون والشراكة مع الجميع.
وهنا لا بدّ من بداية ترتيب البيت الداخلي، الأمر الذي شارفت «هيئة دبي للثقافة والفنون» على إنجازه مع الإعلان المنتظر عن هيكليتها واستراتيجيتها الجديدتين، مما ستتجلى مفاعيله بشكل مباشر على قطاع الثقافة والفنون والتراث والعاملين فيه على حد سواء. ومن هنا فالدعوة موصولة إلى القطاعين الخاص والحكومي لتوسيع نطاق مسؤوليتهما المجتمعية وزيادة الدعم المقدم للمبدعين - وخاصة جيل الشباب - بطريقة ترفد بالضرورة ما تقوم به «دبي للثقافة»، ويصب في المجمل ضمن سياق العمل المستمر نحو إدراك غايات «خطة دبي 2021».
نحن متفقون على مركزية دور الشباب في سياقات دبي المستقبل، وقد قمنا لهذا الغرض بالكثير من المبادرات التي لا مجال لحصرها في هذه العجالة، وأذكر منها فقط على سبيل المثال: منح الفنانين الإنتاجية في معرض «سكة» الفني، برنامج الدعم والرعاية على مدار العام من «هيئة دبي للثقافة والفنون»، والدعم المباشر لموسم دبي الفني و«أسبوع دبي للتصميم»، ومنصة «كريتوبيا».
ورغم ذلك أعتقد بضرورة توسيع نطاق هذا الدعم ووضع أهداف واضحة له، والعمل يداً بيد مع القطاعين العام والخاص نحو استدامته وجعل المواهب الإبداعية داعماً لسوق العمل ولاعباً مهماً في قطاعي الاقتصاد والسياحة.
فما يقدمه الشباب سواء في «معرض الخريجين العالمي» أو في معرض «سكة» الفني، ما هو إلا إبداعات وابتكارات مثيرة للاهتمام، لكنها بحاجة لبعض الرعاية والتوجيه، والانتقال بها من مرحلة التجريب إلى مرحلة الاحتراف، ومن هنا تبرز أهمية الاستثمار في تلك الشريحة وتعزيز دورها واستنهاض قدراتها.
وفي السياق ذاته، كنا قد استضفنا ضمن فعاليات معرض «سكّة» الفني هذا العام «حلقة شبابية» بالتعاون مع مجلس الإمارات للشباب، ناقشنا خلالها بحضور ثلاثين شابة وشاباً سبل تعميق تجربتهم الإبداعية، والانتقال بها لتتعدى حدود الشغف، وصولاً بها لتكون مصدر رزق ورافداً للرخاء. فقد باتت الصناعات الإبداعية دون شك عنصراً أساسياً في بناء اقتصادات الدول، وعليه لا بدّ من التفكير بالتحديات القائمة في محيطنا، وكيفية إيجاد الحلول لمواجهتها، بهدف ترسيخ الاقتصاد الإبداعي كرديف أساسي لعجلة البناء والتقدم. ومن هنا، شددنا في حديثنا على دور المؤسسات التعليمية في تعزيز الوعي عند الشرائح المجتمعية الأكبر بأهمية هذا القطاع، دون إغفال الدور الرئيسي للمؤسسات الثقافية والمتخصصين في تقديم الدعم المطلوب للمبدعين الشباب ولأصحاب الهمم بغية إشراكهم بشكل أكثر فاعلية، بالإضافة للتطرق لمحور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ودورها في تعزيز الممارسات الثقافية الأوسع.
لبنة أساسية
وأعتقد جازمة بأننا لا يجب أن نغفل أبداً عن دور المؤسسات التعليمية، بدءاً من مرحلة الطفولة وصولاً إلى الدراسة الجامعية.
لقد شهدنا العديد من القفزات في القطاع التعليمي خلال السنوات العشرين المنصرمة، وافتتحت أقسام جديدة في العديد من الجامعات تعنى بالصناعات الإبداعية، كما سنشهد في نهاية هذا العام افتتاح «معهد دبي للابتكار والتصميم»، الذي يعتبر الصرح التعليمي الأول المعني بتلبية الطلب المتزايد على رواد الابتكار ومتخصصي صناعة التصميم في المنطقة.
لكن نقصاً ما يبرز في هذه المعادلة: الإنفاق على البحث العلمي، وترسيخه كممارسة أساسية لدى الهيئات التدريسية في مختلف الجامعات وعند الطلبة على حدّ سواء.
فالبحث العلمي هو اللبنة الأولى لأي تقدم تحرزه البشرية في عصرنا الحديث، وبه ومن خلاله نعيش واقعنا اليوم، وننعم بكل مقوّمات الحياة المعاصرة التي تحيط بنا.
في النهاية، أجدد التأكيد على أن المضي قدماً في عجلة التطور والازدهار التي تشهدها الدولة هو واجب على كل فرد منّا، وعلينا أخذ العبر والدروس من قيادتنا في هذا السياق: فهم قد وضعوا الأسس المتينة لهذه النهضة، الأمر الذي يحتّم علينا بذل قصارى جهودنا في سبيل تعزيزها والدفع بمنجزاتنا إلى الأمام.
وإذ أدعوكم للعمل معاً نحو مستقبل مشرق لمدينتنا ودولتنا، تحضرني كلمات والدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «أبشركم يا شباب وطني بأنكم تتبوؤون المركز الأول في اهتمامات صاحب السمو رئيس الدولة، واهتمامات حكومتكم وخططها ومشاريعها، وأنكم محل الرجاء ومعقد الآمال».