مشهد مهيب ذلك الذي أطل علينا خلال الأيام القليلة الماضية، والذي افتتحه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بتهنئة أوائل الثانوية العامة بالتفوق متمنيا لهم مواصلة النجاح في مسيرتهم الدراسية وحياتهم العملية، كنماذج مشرفة لشباب المستقبل القادر على إثبات جدارته بالريادة على كافة المستويات العلمية والعملية، ولاشك أن هذا الاتصال لن يمحى من الذاكرة كما لم تمح كل العلامات الفارقة في حياتنا، وما أشبه الليلة بالبارحة، حيث عادت بي الذاكرة إلى ما يزيد على الثلاثة عقود حين شرفنا، الدفعة الأولى من خريجي جامعة الإمارات، بمقابلة زايد الخير – طيب الله ثراه – في حديث للأب المربي الذي يساعد أبناءه في رسم الطريق لحياة جديدة، والمساهمة في مسيرة وطن ينتظر منهم تحمل المسؤولية بعدما أفاض عليهم بالكثير ومازال، باعتبار أن الشباب هم ثروته التي لا تنضب ومستقبله الزاهر.
أقول ما أشبه الليلة بالبارحة حيث أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن «طموحاتنا لشبابنا كبيرة وتوفير المقومات التي تعينه على إطلاق طاقاته البنّاءة مهمة لا نتهاون في الوفاء بها على الوجه الأكمل»، ولأن مسيرة وطننا المعطاء حلقات متصلة متناغمة، تعرف الدرب منذ البدء، هدفها واضح، إلى العلا نرتقي لا تراجع ولا تناقض ولا اختلاف، صوت واحد يخرج من نبع واحد، وكأني أستمع إلى ذات الكلمات التي مازال صداها يتردد في أذني، وأثرها حدد لي الطريق في الوطن، وحين ابتعثتنا الدولة، مكرمين ومصممين على الوفاء ورد الجميل، إلى أميركا تارة وأوروبا أخرى، لم تغب عنا الصورة ولم يخفت الصوت، هو ذات الصوت الذي يرشد، وذات اليد التي تحنو.
أقول إن تأكيد سموه أن «التفوّق الحقيقي أساسه إدراك قيمة العلم وأثر المعرفة في تطوير حياتنا إلى الأفضل.. التعليم كان وسيظل في مقدمة القطاعات التي توليها الدولة كل الدعم والرعاية، فبالعلم ترقى الشعوب وتتقدم الأمم، واستثمارنا في المستقبل يبدأ من إعداد الشباب القادر على تحقيق أعلى مستويات التميز».
أتوقف عند كلمة «كان» و «سيظل» لتأكيد أن ذلك ديدن القيادة وعهدها، ولولا ذلك لما كنا اليوم نتحدث عن تلك القفزات الهائلة التي تحققها جامعاتنا في التصنيف على المستوى العربي والدولي، وكذلك طبيعة المهام التي نعد لها أبناءنا اليوم، وتلك الحالة من المنافسة الشديدة بينهم لمعانقة الفضاء وتحقيق النجاحات فيه كما حدث على الأرض، هو نبع واحد ورؤية واحدة وطريق واحد، التحديات تزداد، لكن إرادة التحدي تزداد كذلك، وعزم الرجال يستند إلى تاريخ حافل من القدرة ومواجهة التحديات والانتصار عليها.
تكتمل ملامح الصورة حين تجد القيادة الرشيدة في كل ربوع الوطن تحتفي بالمتفوقين من أبنائه، مقدمين لهم كل العون في استكمال الطريق، ليكونوا مؤهلين لحمل الراية، واعين الدرس، حافظين للجميل الذي ذكرته إحداهن، حين كان اللقاء مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حين قالت «إن تفوقنا نبع من أن وطننا لا يقبل بغير المركز الأول، وأنه آن لنا أن نرد الجميل»، وتلك التي بكت بدمعة تعبر عن فرح لا حزن عن مسؤولية عليها أن تتحملها، وعن مسيرة تتنظر مشاركتها، وعن وطن معطاء لا يصح أن نكون به غير بارين، ولجميله غير رادين، ذلك هو المعنى وتلك هي المسؤولية.
إن وطناً يحتفى بالعلم ويكرم المتفوقين هو وطن يملك حاضره ويعرف مستقبله، ولا شك أن هذه الرسالة، التي طافت أرجاءه، سوف تمثل قوة دافعة لكل جيل لكي ينال تلك المكافأة الكبيرة، وهل هناك مكافأة أكبر من احتفاء الوطن بأبنائه.
إن رحلة أبنائنا المتفوقين بدأت الآن، وإعدادهم للقيام بأدوار مهمة في المسيرة قد علت وتيرتها، وخاصة أن ميادين العلوم اتسعت، والمعرفة تعاظمت، والتخصصات أصبحت أكثر دقة، لذا فإنه من الأهمية بمكان أن تكون هناك صورة واضحة لهم للتخصصات التي عليهم أن يلتحقوا بها لاستثمار ذلك التميز في المجالات التي نحتاج إليها، وفي العلوم التي يجب أن يكون لنا الرصيد الكبير منها، وأن يكون نداء الوطن قبل كل نداء، ومصلحته فوق كل مصلحة، البذل له أولى من كل بذل، إن طموح أبنائنا يجب أن ينبع من طموح وطن يذهب إلى معانقة الفضاء، عندئذ يكون رد الجميل.