أظهر الشعب الجزائري قدراً كبيراً من الانضباط منذ اللحظة الأولى للحراك الشعبي الرافض لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وعلى مدار أسابيع متوالية قدم الشعب الجزائري مثالية وصلت لحد تنظيفهم للشوارع عقب انتهاء المليونيات، وبرغم أن المشهد السياسي احتمل ضغوطاً هائلة إلا أن أحداً لم ينزلق خارج سياق المشهد الذي أوصل الجزائريين إلى تطورات سياسية أفرزت عن استقالة بوتفليقة وفتحت الباب لمستقبل سياسي عنوانه إرادة الشعب ووحدته.

في جمعة ما سمي الباءات الثلاث أظهرت قناة الجزيرة القطرية وجهها العابس عندما أطلت من داخل الجزائر من العاصمة ومختلف المدن الجزائرية، التغطية لمليونية الجزائر لم تكن بريئة، فالقناة القطرية طردت منذ العام 2012 وليس لها مكتب رسمي داخل البلاد الجزائرية، لكنها ظهرت وحاولت من خلال تغطيتها إظهار وجودها في أكثر من مدينة جزائرية، وحاولت تمرير أن لديها مراسلين على التراب الجزائري.

السؤال لماذا ظهرت قطر الآن؟، والجواب هي أن محاولة قفز على ما حققه الجزائريون تحدث عبر قطر وعقاربها، تماماً كما كانت ثورة 25 يناير المصرية قبل أن يقفز عليها «الإخوان» في 28 يناير ويحرفون مسار الثورة لما أرادوه في مصر وصنعوا مأساة مصرية بتسلقهم على الثورة ووصولهم إلى السلطة، وهذا ما يحدث في الجزائر بالضبط.

وبرغم أن المتظاهرين في الجزائر العاصمة كانوا قد قاموا بطرد رئيس حزب جبهة العدالة والتنمية الإخواني عبد الله جاب الله من المسيرات، إلا أنه عاد بعد أن ضخت قطر ملايين الدولارات لشراء الولاءات، ولعل هذه الأموال أظهرت التغطية الإعلامية لعشرات المنصات الإعلامية التي لم تكن مواكبة للمشهد الجزائري منذ بداية الحراك، إلا أنه ظهر بعد استقالة بوتفليقة بشكل سريع وقوي، يؤكد أن هناك قوة دفع لتغيير المشهد لمصلحة الطرف المدعوم من قطر.

من المفارقات أن المليونيات الجزائرية ظلت تحصر مطالباتها في ما يخص الشعب الجزائري، غير أن خطاباً عدائياً ظهر فيما بعد استقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ومن الواضح أن الأطراف المموّلة من قطر ترغب بتأزيم المشهد الجزائري بخلق أزمة تحرف المسار السياسي، وتصنع مساراً مأزوماً يمكن من خلاله تأجيج صراعات داخلية، تحدث معها فراغات يمكن لعملاء قطر وعقاربها التسلل للمشهد الجزائري.

اللغة العدائية الموجّهة إلى الدول العربية (السعودية ومصر والإمارات) جاءت عبر الآلاف من حسابات الكترونية تضخ ذات الخطاب المحتقن تجاه تيار الاعتدال العربي، وتبدو حركة مجتمع السلم الذراع المحسوبة على «الإخوان» تلعب ذات الدور الذي لعبته الأذرع الإخوانية الأخرى في مصر وتونس واليمن وليبيا التي عملت على تأزيم العلاقات مع المحيط العربي لتخلق في ذات الوقت أزمة انقسام داخلية تباعد بين القوى السياسية الداخلية ومن بعد تستطيع تلك القوى الإسلاموية من فرض أجندتها الفوضوية التي من خلالها فقط تستطيع هذه القوى تحقيق أهدافها بالوصول إلى السلطة السياسية.

لم يكن إخوان الجزائر بعيدين عن السلطة فلقد كانوا ضمن دائرة السلطة فيما بعد «العشرية السوداء» بعد توافقات الجزائر التي أنهت السنوات الدموية، وظل إخوان الجزائر بعد سنوات، من العشرية السوداء، موالين للرئيس بوتفليقة، لطالما كان ميزان القوة ليس في صالحهم، كما فعلوا بعد سقوط تجارب الإخوان في الدول العربية كمصر وتونس، ليعودوا من جديد في التودد له، والتظاهر بدعمه سياسياً ضد أي خصوم محتملين لاستمراره على رأس السلطة.

ولعل التدقيق في موقف إخوان الجزائر من بوتفليقة قبل وقوع التظاهرات حيال ترشحه من حيث دعم استمراره، فضلاً عن عقد لقاءات سرية مع شقيقه لبحث السبل الممكنة لتأييده، وبين الانقلاب على ذلك بعد خروج التظاهرات الرافضة لترشحه على نطاق واسع، مؤشر كاف على سياسة الحركة الدائمة في القفز على مكتسبات الشعب لصالحها، والبحث عن مصالحها الذاتية في أوقات الأزمات.

تخوض الجزائر واحدة من أدق مراحلها السياسية التي لا تحتمل انزلاقاً سيدفع ثمنه الجزائريون أنفسهم، الذين مازالوا يتذكرون سنوات الجمر التي أحرقت الجزائر وأضعفت قدرتها الاقتصادية، قبل أن تخلق شروخاً في المجتمع المدني، التدخل القطري عبر تسريب الأموال الفاسدة لتعزيز قوة تيار الإخوان وإظهارهم على قناة الجزيرة للركوب على موجة ما حققه الجزائريون والجزائريات من مكاسب وطنية أبهرت الشعوب حول العالم، لذلك سيكون على الشعب أن يكون حريصاً على تحصين تلك المكتسبات الثمينة من أن يختطفها «الإخوان» ويدفع الجزائر لأتون صراعات تهدف لإثارتها أذرع الشر المتربصة بالجزائريين والجزائريات الذين أعلنوا منذ إطلاق حراكهم رغبتهم في إقامة دولة المواطنة والقانون والدستور الجامع لكل الجزائر الكبير بملايين الشهداء الذين كتبوا بدمائهم استقلال الوطن الذي ظل في عيون العرب دائماً كبيراً وشامخاً.