طيلة قرون مضت كانت معاملة المعرفة بكل ما تشمله وبكل من يمثلها معاملة مستقلة بعيدة عن سياقات الحياة والممارسة اليومية لها. وقد كان هذا نتيجةً طبيعية لطبيعة الاقتصاد السائد في تلك العصور فطبيعته كانت تقتضي بالضرورة هذه المعاملة المستقلة للمعرفة.

ونلمس ذلك بسهولة من خلال النظر في عصور الاقتصاد الذي ساد في تلك العصور وكيف أن طبيعته فرضت ذلك بدءًا من عصر الاقتصاد الزراعي ثم اقتصاد المصانع وثالثاً اقتصاد المكاتب والشركات.

وفي عصر الثورة الاقتصادية الرابعة الذي نعيشه وهو عصر المعرفة اتخذت المعرفة شكلاً آخر في الممارسة الحياتية نظراً لما تفرضه طبيعة الاقتصاد السائد اقتصاد المعرفة وليس ما تفرضه طبيعة المعرفة وجوهرها.

في العصور الاقتصادية الثلاثة السابقة كانت الممارسة الإنسانية تفرض، نظراً لطبيعة تلك الأنماط الاقتصادية، شكلاً من المعاملة تجاه رواد المعرفة، لا يختلف اثنان في حالة تأمله على أنه كان دائماً بين حالتين، انحدار وانحدار الانحدار، إذ إن معظم أولئك الرواد في معظمهم كانوا مجبرين دائما على أن يتكيفوا مع ما تفرضه طبائع تلك الأنواع الاقتصادية من معاملات نتيجة لما يفرضه سياق الاقتصاد القائم من توجهات بعيدة دائما عن سياقات المعرفة سواء في محيطهم وبيئتهم أو حتى على أصعدة أكبر قد تصل إلى العالمية.

تلك الحالتين المتفاوتتين بين الانحدار المعرفي وانحدار الانحدار كانت في معظمها تصل بكل صاحب علم ومعرفة إلى نهاية سيئة تفرض أكثر من مجرد الموت.

على ذات هذا السياق يمكنني الحديث في هذا المقال عن مناسبة متصلة حدثت منذ أيام وهي وفاة العالم الجليل توني بوزان مؤسس علم الخرائط الذهنية.

لقد كان لي شرف أن أكون تلميذته في علم الخرائط الذهنية بل ووريثته في هذا العلم. وقد نلت شرف دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية ذات مرة حين كنت أمارس نظرية هذا العالم في قاعة تضم 1300 متدرب استطعت أن أعلمهم في جلسة واحدة قواعد هذا العلم وتطبيقه بجدارة في ذات الجلسة.

لقد عاش العالم توني بوزان مرحلتين من الاقتصاد تجعله مخضرماً الأولى فرضت عليه طبيعة ابتعادها عن الاهتمام بالمعرفة وعلماءها أن ينال من الهضم ما يمثل الإنحدار المعرفي شكلاً ومضموناً والمرحلة الثانية هي مرحلة عصر المعرفة لكن حياته فيها كانت قصيرة نظراً لحداثة هذا العصر المعرفي.

وقد فرض الاقتصادان في طبيعتهما ممارسة خاصة على النظرية التي طرحها توني بوزان وهي علم الخرائط الذهنية فالعصر الأول فرض عدم الازدهار إلا على مستوى محلي والثاني عصر المعرفة، رغم ما يجب أن تكون ممارسته من اهتمام تجاه العلم والمعرفة إلا أن الوقت القصير الذي عاش فيه هذا العالم أدخل نظريته وعلمه في مجال التطبيق والازدهار عالمياً لكنه كان بمعزل عن ذلك الازدهار.

ومن ذلك أن ثمة ٢٥٠ مليون شخص على مستوى العالم يستخدمون الخرائط الذهنية بشكل يومي وهذا يعادل تعداد دولة ليس فقط ذلك بل إن مدارس ٢٣ دولة اعتمدت تدريس الخرائط الذهنية في مراحل تعليمية مختلفة وهذا هو الإرث الحقيقي الذي تركه توني. بل إن معظم العلوم التي كان لها شكل تقليدي من حيث إنها قواعد صارمة لابد منها لإجادة أي لغة أو علوم أصولية قد تحولت كلياً نحو استخدام نظرية الخرائط الذهنية وبدلت من طبيعتها الشكلية التقليدية الصارمة مما جعلها بهذا التحول في شكل أكثر ليونة وسهولة.

وهنا اختلفت طبيعة الممارسة التي سادت دائما في عصور سابقة والتي كانت تفرض في معظمها موت العلماء ورواد المعارف ثم يتم الانتصار لهم في عصور لاحقة من أجيال تتوافق طبيعة أفكارهم ومعطيات عصرهم مع أفكار أولئك العلماء. وهذا الاختلاف يبدو نسبياً فقط، كل الأمل في أن يزدهر مستقبلاً ويتم احتواؤه في الممارسة المعرفية وجوباً يفرضه سياق هذا العصر وتوجهاته الاقتصادية القائمة على المعرفة والاعتناء بروادها. وللحديث بقية.