في هذه الأيام لا تحاول أبداً أن تركّز في انفعالات وتعابير وجه شخص يقلّب في هاتفه صفحات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، فتارة تجده مبتسماً وتارة يعبس وتارة يضحك ويقهقه، وبعدها بثوانٍ قد تجده يبكي، ليس ذنبه ولا هذه حالته أو طبيعته، إنما هذا تأثير الانفصام الإلكتروني الذي نعيشه هذه الأيام.
فمنشورات وسائل التواصل تأخذك بين فضاءات وأفكار ومشاعر وتصرفات وعادات وتقاليد مختلفة، قد تحوّل مزاجك بين لحظة وأخرى من حال إلى حال معاكس تماماً، فهل لهذا الأمر تأثير على حياتنا وتعاملنا وتعاطينا مع الآخرين؟! سؤال يحتاج لتحليل عميق وأن يذهب كل شخص ليختلي بنفسه، ويحاول فهم تداعيات هذا الأمر على نفسيته وحياته.
قبل أيام وعندما بدأت في التفكير في مقال اليوم وبينما أتصفح إحدى وسائل التواصل، صحيح أنني من أصحاب «مرور الكرام» لا أقضي وقتاً كبيراً في التصفّح والتركيز، إلا أنه استوقفني منشور موسيقي يخطف الأنفاس، وبينما أنا مستمتع في الموسيقى وبدأ تأثيرها يحسّن من نفسيتي ومزاجي.
وإذا بمنشور تالٍ له مباشرة في الصفحة ذاتها مضمونه عنف لرجال يقدمون على ضرب رجل ضرباً مبرحاً تقشعر له الأبدان، وما بين موسيقى تخطف الأنفاس بروعتها، وعنف تقشعر له الأبدان بإجرامه وانعدامه من الإنسانية، هنا يكمن الانفصام الإلكتروني الذي أقصده اليوم، والذي بلا شك له تأثير سيئ على حياتنا، فحياتنا «رتمها» بطيء نوعاً ما رغم سرعتها الزائدة، ولكن وسائل التواصل أصلها السرعة والرتم العالي والسريع، وهذا يمكن أن يجعلنا غير متزنين في مشاعرنا وردود أفعالنا ولا حتى في تصرفاتنا.
في دراسة تم نشرها مؤخراً أثبت فيها أن الاطلاع ومتابعة صور وفيديوهات وتحركات الآخرين يزيد من الشعور بالاكتئاب وإفراز الدماغ بشكل كثيف هرمون التوتر المعروف باسم الكورتيزول.
وهذا بالطبع له تأثير سيئ على أولئك المتابعين لحياة المؤثرين في وسائل التواصل ومقارنة حياتهم بما يشاهده في واقعه وواقع حياته سواء شريك حياته أو عمله أو سيارته أو حتى أبسط التفاصيل وأتفهها، ولهذا نجد الكثير من ردود الفعل غير الطبيعية في تعامل البعض مع الآخرين سواء أكانوا بعيدين أو حتى قريبين، وعندما تفتش في السبب تجد أن وسائل التواصل غيرت في نفسيتهم لدرجة أنهم لم يعودوا يفصلون بين سرعة إيقاعها وسرعة إيقاع حياتهم الطبيعية.
إن الدخول في حالة معينة من المشاعر والأحاسيس والخروج منها بسرعة، يجعلنا تدريجياً نفقد القدرة على الاستمتاع والفصل بين هذه المشاعر، وكثرة التخبط في هذه المسألة تجعلنا أقرب للآلة نضحك لما يضحكنا ونحزن لما يحزننا، دون أن يأخذ كل شعور حقه، وأقصد هنا أن مشاعرنا تصبح عبارة عن ردة فعل لحالة نراها وليس حالة نعيشها، وأنا بالطبع لا أطلب أبداً أن نعيش الحالات المتلاحقة في وسائل التواصل فهذا أمر جنوني، ولكن أطلب ألا ننتبه لما نشاهده ونسمعه ونتصفحه.
وأن ندرّب أنفسنا كيف نحافظ على أمزجتنا الإيجابية والابتعاد عن كل ما هو سلبي، ووسائل التواصل تعج بما هو سلبي ومؤذٍ لمشاعرنا من صور وفيديوهات دمار وحصار وقتل وتشريد، وحروب ونزاعات، وبغض وحقد وكره وتنافس عصور الجاهلية كلها تجدها أمامك، وعندما تنغمس فيها ستتحول إلى شخص عصبي متنرفز يقاتل حتى ذباب وجهه كما نصفها في العامية، وبهذا تصبح حياتنا رهن ما نشاهده في وسائل التواصل وليس ما نعيشه، ويمر علينا من أحاسيس ومشاعر ومواقف ولحظات.
المصيبة الكبرى أن وسائل التواصل حولتنا لعديمي الإنسانية، فمن كثرة ما نشاهده من مواقف مؤلمة أصبحنا لا نتأثر بما نشاهده، وهذه أيضاً مشكلة نفسية نواجهها في أيامنا هذه، فنحن غير سويين في تعاطفنا واستنكارنا، وحتى في تعبيرنا عما يدور بدواخلنا.
ولهذا يجب علينا أن نقلّل من انغماسنا مع منشورات وسائل التواصل، ونعتبرها جزءاً من تسليتنا واطلاعنا لا أكثر لا أن نجعلها محور حياتنا ومحرّكه الرئيسي، فنفسياتنا تحتاج لرتم بطيء حتى تتعايش مع ما يحدث أمامها، والرتم السريع يجعلنا شاشات تتصفح تشحن نفسها بالسلبية والتوتر والاكتئاب وعدم الثقة بالنفس ومن ثم ننفّسها في واقعنا فندمّر حياتنا، فالحذر كل الحذر من أن تكون هكذا حياتنا، فأصلنا الاتزان وليس الانفصام.
* كاتب وإعلامي
يوسف الشريف*