عصر مختلف عن كل العصور، مساحة زمنية فرضت حضوراً مميزاً سواء بالإيجاب أو السلب، تحديث وتكنولوجيا تغلف العالم، تطور طال كل شيء.. ولكن لم يخطر على بال أحد من سكان هذه المساحة الزمنية بأن السرقات أيضاً قد تطورت.. نعم إنه كذلك.
من سكان هذا الزمان، من أتوا من عصر جميل مازال يسكنهم، عصر لو تكلمنا فيه عن السرقات واللصوص وحكيناها الآن لدخلت في مجال الطرفة، فالسرقات كانت بسيطة سطحية، وكم من سكان عصر الجمال قاموا مفزوعين وسط سكون الليل على كلمات تنفذ من النافذة «حرامي.. امسك الحرامي.. بوليس»!
وعندما يمسك بالحرامي فلا يجد البوليس معه سوى حبل غسيل مشبوكة فيه بعض الملابس.. وآخر سرق دجاجتين من عشة الدجاج فوق «سطوح» الجيران، ووضع القدر في طريقه قطة سوداء على سلم الخدم ربما بدورها تسرق ما تأكله من صناديق القمامة، ولحظ اللص التعس أنه احدث ضجة عندما تعثرت قدماه في القطة الأكثر تعاسة منه وفي النهاية لم يتمكن من سرقة الدجاج الذي كان كل حلمه أن يتذوقه ولو مرة في عمره.. ولكن «فإن الحظ التعس شاء»!
تطوير وتحديث وتكنولوجيا دخلت بدورها عالم اللصوص والسرقات، ولكن كيف؟
طموحات اللصوص عملاقة.. عميقة وكبيرة.. لصوص متطورون أيضاً.. تخطيط وتكنيك ورسم خطط وإخفاء بصمات بطرق متطورة التقطوها من أفلام العنف والتشويق والإثارة، ولأن الطموحات بعرض الأفق، لابد وأن تكون السرقات بطول الأفق أيضاً.. سرقات تقدر بالملايين.. معاً نلقي عليها الضوء.. ليس أكثر.
سرقات هذا الزمان، هي سرقات لتاريخ الأمم ولحضاراتها وكل إبدعاتها.
مصر الفرعونية كانت متحفاً لحضارة هي الأعرق على امتداد العالم، حضارة التي صنعت وشيدت نصف آثار العالم على ضفاف النيل وسرقة العديد من آثار مصر المختلفة وتهريبها لخارج البلاد من السرقات التي تهز المجتمع المصري برموزه السياسية والثقافية وبشعبه الغيور على تراث الأجداد من الفراعنة، آثار مصر أصبحت تتسرب لخارج البلاد لأن نوعيتها وكمياتها وأحجامها المختلفة يسهل تهريبها، أو إهدائها لضيوف أجانب غير رسميين.
ولكن هناك آثار مصرية قد تؤثر على مستوى العلاقات الثنائية بين مصر وبلاد أخرى، وأكبر مثال على ذلك رأس نفرتيتي الموجودة في متحف برلين بألمانيا ويتم الاستعداد لنقلها لمتحف جديد في ألمانيا أيضاً، ولكن تكثف مصر جهودها على المستوى الرسمي لاستعادة هذا الأثر الفريد على مستوى العالم، وغيره من الآثار المسروقة والتي خرجت من مصر المحروسة بطرق غير شرعية، لعب التطور والتحديث في علم الجريمة مداها لسرقة تاريخ عريق مثل تاريخ الفراعنة.
متحف اللوفر بفرنسا يتواجد فيه عدد من المسلات المصرية القديمة، تتواصل جهود مصر على المستوى الدبلوماسي وبالمسؤولين عن المتاحف العالمية وصالات العروض وغيرها لاستعادة المسروقات الفرعونية التي تم الاستيلاء عليها، وآثار أخرى تم معرفة سرقتها من المتاحف المصرية ومعرفة ذلك كانت في إطار جهود تطوير الترميمات الأثرية للعديد من المخازن المخصصة للآثار المصرية، بالإضافة إلى تعقب بيع الآثار خاصة الصغيرة منها عبر شبكات الانترنت وصالات المزادات الدولية.
وقد تمكنت مصر من استعادة العديد من الآثار الفرعونية المسروقة من أهمها جدارية فرعونية كانت قد انتزعت من مقبرة إحدى كاهنات مصر الفرعونية بالأقصر منذ أربعين عاماً قبل أن يتم بيعها في إحدى القاعات بلندن، واسترداد تمثال من «الأوشابتي» كان قد سرق من إحدى المناطق الأثرية جنوبي القاهرة.
أيضاً تم تسليم رأس امرأة فرعونية على شكل رأس ثعبان «الكوبرا»، من قبل متحف «أونتاريو» بتورنتو في كندا، والتي كانت بحوزة سائحة كندية، يعود هذا الأثر للدولة الفرعونية الحديثة نحو 1550 سنة، واستعادة لوحة ضخمة تزن 350 كيلوغراماً تعود إلى عصر الملك بسماتيك الأول من الأسرة الخامسة والعشرين، تم سرقتها من سوهاج في صعيد مصر في العام 1983.
وليست هذه فقط سرقات الخاصة بحضارة الفراعنة وإنما الاكتشافات الحديثة أثبتت أن العديد منها قد سرق، ومحاولات مستميتة لإعادتها قائمة من قبل مصر.
ومنذ سنوات قليلة استيقظت القاهرة على خبر مثير عندما اكتشف المسؤولين عن متحف محمد محمود خليل بالزمالك اختفاء لوحة «أزهار الخشخاش» لفان جوخ العالمي، والتي سرقت من على جدران المتحف، مما أثار ردود فعل متباينة من قبل الطبقة المثقفة في مصر والفنانين ومحبي كل ما هو نفيس ونادر وعظيم.
وقامت الشرطة المصرية بالتعاون مع وزارة الثقافة وعدد من الصحافيين والفنانين التشكيليين في وضع خطة محكمة لإيجاد سارق أزهار الخشخاش، وتمكنوا بعد طول بحث من معرفة أن سارق اللوحة هو أحد المواطنين الذين ينحدرون من بقايا الطبقة البرجوازية الارستقرارطية بمصر والذي كان يسكن منذ طفولته وحتى بداية مرحلة في الزمالك أمام نادي الجزيرة الراقي وهو قريب من متحف محمد محمود خليل، وقد طرد سارق اللوحة من منزل أسرته لسوء سلوكه وانحرافاته لهزة نفسية بسبب ما حل به من حالة اغتراب اجتماعي، فاحترف سرقة كل ما هو ثمين. وفي النهاية اعترف أمام الشرطة ببساطة بأنه سارق اللوحة وقام بتهريبها خارج مصر مع أحد كبار السياح، وتم العثور عليها وإعادتها للمتحف..
ومازال السارق مغترباً، فإلى أين ينتمي؟ إلى عصر أرستقراطي بكل مفرداته الرائعة، أم لعصر لم يجد نفسه فيه سوى سارق لوحات، فهو لا يجد قوت يومه ولكن بالأمل يعيش الإنسان يوماً آخر.
وإذا عبرنا الحدود متجهين لباريس، نجد انها لم تخلُ متاحفها من سرقات اللوحات العالمية المميزة، فقد تم سرقة خمس لوحات من متحف باريس تصل قيمتها إلى مائة مليون يورو، وتمت السرقات بأحدث تقنيات السرقة التي تدور في الغرب.
من المسروقات في متحف باريس لوحة «شجرة الزيتون» للفنان جورج براك، «ولوحة أخرى لمايتس وثالثة لبيكاسو» في العشرين من شهر مايو من العام الحالي.
وقد اكتشفت المسروقات في الساعة العاشرة صباحاً بتوقيت غرينيتش، قبيل افتتاح المتحف الفرنسي الذي يشغل جناحاً من قصر طوكيو وهو مبنى عصري التصميم يطل على نهر السين في الدائرة 16 الارستقراطية بعاصمة النور باريس.
وأظهرت تسجيلات الكاميرات الالكترونية للمراقبة ان شخصاً دخل المبنى عبر نافذة سهلة الكسر، وبحسب مصادر قريبة من التحقيق، فقد اكتشف ان هناك خللاً في أجهزة الإنذار بالمتحف بالإضافة إلى عدد قليل من الحراس الذي كان لابد وان يتضاعف في مثل هذا المكان العريق الثمين في مقتنياته.
وفي العام 2004 ـ 2005 تمت سرقة لوحة الصرخة لإدوارد مونس وبعض من أعمال فان غوخ وبيكاسو وجوجان من صالة العرض الكبرى، ولكن الشرطة الفرنسية وقسم التحقيقات تمكن من استعادة المسروقات.
وللاحتلال دور في سرقات القرون، مثال صارخ هو ما جرى على أيدي الجيش السوفييتي وقت احتلاله برلين عام 1945 بعد سقوط الهتلرية، إذ تشير بعض التقارير إلى أن الجيش الأحمر وقتذاك كان يضم فرقة خاصة تعرف باسم «فرقة لجنة الغنائم»، نجحت في وقت قياسي في الاستيلاء على أكثر من مليون لوحة وقطعة فنية لا تقدر بثمن من متاحف ألمانيا وهناك نفائس عدة لم يتأكد بعد مصيرها وان كان يعتقد أنها مازالت في موسكو مثل «كنز طروادة» الذي اكتشفه الاثرى الألماني «برايت سلمون» في اليونان في العام 1873.
وماذا عن لوحة الموناليزا للفنان ليوناردو دافنشي؟
لم تنج لوحة الموناليزا ذات الضحكة الغامضة التي اختلف في تفسيرها وقراءتها كبار فناني العالم. هي الأخرى كانت مطمعاً للصوص، ولكن هذه المرة كانت محاولة سرقتها وإتمامها من متحف نيويورك ـ وراءها ـ تكنولوجيا عالية التحديث عن طريقها تمكن اللصوص من سرقتها ببساطة تامة.
اكتشاف السرقة كان بمحض المصادفة.. كيف؟
رسام بسيط من رسامي الأرصفة، كان يعتاد أن يتناول قهوة الصباح في أحد مقاهي الأرصفة بجوار المتحف، أخذ كراسته وقلم الفحم الذي اعتاد الرسم به، وانطلق داخل المتحف ليرسم الخطوط الرئيسية للموناليزا، وما إن انتهى من صعود الدرج والوصول لمكان اللوحة، وجد مكانها خاوياً.. مكان بلا موناليزا.. أبلغ الأمن في المتحف وبدأ إخلاؤه من الزوار، وبقبضة من حديد تتم السيطرة على المكان، وبعد بحث وتحقيقات طويلة تمكنت الشرطة الأميركية من إلقاء القبض على السارق الذي اعترف بجريمته التي بررها بمبرر صادق، وهو أن الموناليزا تشبه والدته التي ماتت مقتولة في حديقة منزلها، وان دواعي السرقة لم تكن للثراء أو الاتجار، وإنما لدواعي إنسانية في نفس السارق، وتظل نسبة ومدى مصداقية هذه الحكاية مفتوحة على طريقة «الأوبن أنر» في الأفلام البوليسية.المتخصصون في علم الجريمة والسرقة يؤكدون أن الفن السابع الحديث له علاقة كبيرة من حيث وضع الخطط في إطار الفن السينمائي وهي خطط متقنة، إن ذلك له علاقة وثيقة بتسهيل إتمام السرقات وتهريبها.
وعلى المستوى العربي في السينما المصرية العديد من الأعمال السينمائية التي تعكس السرقات الأثرية وغيرها أهمها المومياء للمخرج العبقري شادي عبدالسلام، وفرار مومياء وهو فيلم حديث من بطولة نيللي كريم، وفيلم أبوعلي من بطولة كريم عبدالعزيز ومنى زكي، يناقش قضية تهريب الآثار في إطار كوميدي طريف.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا وفي هذا الصدد، هل تعجز التكنولوجيا الرقابية عن حماية المتاحف العالمية ورصد ممارسات اللصوص والسارقين؟ ربما تكون الإجابة على طريقة «الأوبن أنر».
القصر والسرقة
يتكون القصر من طابقين إلى جانب الطابق الأرضي، وتبلغ مساحة قصر محمود خليل نحو 1400 متر، شيده في بداية القرن العشرين «روفائيل سواس» من أشهر المعماريين العالميين واشترته الأسرة المالكة ثم اشتراه منها محمود خليل في أوائل الأربعينات، ويطل القصر على النيل، أسقفه قطع فنية، تعرض القصر للسطو أكثر من مرة، ولكن أحبطت من قبيل الأمن المصري.
علم ضبط الآثار
يدرس هذا العلم في أكاديميات الشرطة والمباحث حول العالم وكذلك في العواصم العربية الكبرى، ويعتمد على العديد من الأسرار في رصد تهريب الآثار والمسروقات الفنية والعملات الذهبية، ويوظف نظرياته في المتاحف والمعارض، عن طريق وضع أنواع من المغناطيس الحساس للغاية بطرق ملتوية تكشف عن اللصوص الذين لابد لهم أو غالباً من استخدام بعض الآلات لرفع المسروقات من مكانها. وهذا المغناطيس يوصل بأجهزة الإنذار الحديثة التي يصعب إتلافها، وبمجرد وصول المغناطيس إليها تثار ضجة بأصوات رنين مختلفة تهز المكان، وبالتالي تحبط عمليات السوط والسرقة.
لوحات في متحف..
قصة لوحة «الحياة والموت» لبول غوغان «والتي اقتناها الفنان المصري محمود خليل في قصره بالزمالك، ترجع إلى أن زوجته الفرنسية «ايميلين» اشترت هذه اللوحة في العام 1903 من باريس بالإضافة للوحة «زهرة الخشخاش» لفان غوخ بمبلغ 800 جنيه مصري وقتذاك وهو مبلغ كبير في مطلع القرن الماضي، وأهدتها لزوجها محمد محمود خليل المنحدر من عائلة مصرية أرستقراطية ثرية ـ غوغان ـ بعد زواجهما في باريس حيث كان يدرس الفن التشكيلي هناك بالإضافة إلى دراسته للقانون من جامعة «السوربون» بباريس.ويعتبر قصر محمود خليل بالزمالك واحداً من أغلى القصور في مصر، جزء منه خصصه للتحف الفنية العالمية التي كان يقتنيها والتي وصلت إلى 208 لوحات عالمية منها «الحياة والموت» لبول غوغان وزهرة الخشخاش لفان غوخ و«ذات رباط العنق» و«التل الأبيض» لأوغست رينوار، و«فنجان ويوسفي» لرينوار.
بالإضافة إلى مقتنيات أخرى من منمنمات فرنسية منحوتة يدوياً.ويعشق محمود خليل الفنون التشكيلية العالمية التي دفع فيها كل ثروته.ولد خليل في العام 1877 يتقن الفرنسية. وعندما توفي في العام 1953 أوصى زوجته الفرنسية ايميلين بإهداء القصر وما فيه من تحف لا تقدر بثمن، وفي العام 1962 تم افتتاح القصر كمتحف والذي ضم مقتنيات محمود خليل التي جمعها طوال حياته ويعتبر محمود الأوحد على مستوى العالم الذي لديه هذه المجموعة الفنية من اللوحات العالمية التي دفع فيها كل ثروته وحياته في البحث عنها. ويخضع المتحف لحراسة أمنية مشددة تستخدم أحدث الوسائل لمنع السطو على القصر ـ المتحف
منى مدكور